أزمات الرئيس جو بايدن الخارجية تتضاعف سريعاً
كان مفاجئاً أن يطرح الرئيس جو بايدن نفسه كأفضل شخص مخوّل لتسلم الرئاسة الأميركية في هذه المرحلة، خلال أول مؤتمر صحافي يعقده يوم الخميس الماضي، فاعتبر نفسه صاحب مبادئ، رغم نزعته البراغماتية، ومسؤولاً هادئاً رغم حماسته، كما أنه يتنبه إلى المشهد العام وأدق التفاصيل ويتبنى مقاربة إنسانية في تعامله مع المشاكل! يظن البعض أن هذه الصفات تنطبق على أدائه في الملفات الداخلية، لكنها تتماشى أيضاً مع مواقفه حول السياسة الخارجية.لكن قد تكون هذه المواصفات مجرّد أمنيات، بعد مرور 65 يوماً فقط على بدء عهد بايدن. يواجه الرئيس الجديد تحديات كبرى في جميع قارات العالم، وربما «عادت» الولايات المتحدة إلى الساحة العالمية، كما قال، لكن لم يسبق أن كانت مصالحها وقِيَمها مُهددة لهذه الدرجة.تحتل الصين وإيران وكوريا الشمالية وأفغانستان أهمية كبرى في أجندة الأمن القومي، التي يطرحها بايدن. في الملفات الثلاثة الأولى، يصعب توقّع الوجهة التي سيتخذها الرئيس. قد تكون خطته واضحة في الملف الرابع، لكن تطرح طريقة تطبيقها إشكالية بارزة. سبق أن بدأت «المراجعات السياسية» لهذه الملفات الأربعة بين الوكالات المعنية، لكن تعثّر فريق بايدن منذ البداية في تعامله مع أكثر المسائل إلحاحاً، وقد تصل هذه الأزمات المحتملة إلى نقاط تحوّل محورية خلال أسابيع.
لا تزال إيران المسألة الأكثر إرباكاً، إذ انسحب الرئيس دونالد ترامب من الاتفاق النووي الإيراني، مع أن طهران كانت ملتزمة بشروطه، ثم أعاد فرض العقوبات عليها بعد رفعها سابقاً مقابل تفكيك برنامج إيران النووي. وبعد مرور سنة على محاولات التحايل على العقوبات، عبر التعامل مع الأوروبيين، استأنفت إيران تخصيب اليورانيوم استناداً إلى المقطع 36 من الاتفاق، فهو يذكر أن انتهاك أحد الطرفَين لالتزاماته يعطي الحق للطرف الآخر بالقيام بالمثل. خلال الحملة الانتخابية في عام 2020، تعهد بايدن بالعودة إلى ذلك الاتفاق. لكنه أعلن فور تسلمه الرئاسة أن الإيرانيين مُلزَمون بأخذ الخطوة الأولى، عبر التخلص من اليورانيوم المُخصّب، قبل رفع العقوبات، رفض الإيرانيون هذا العرض طبعاً، وبما أن إيران لم تكن الجهة التي انسحبت من الاتفاق، فما الذي يدفعها إلى تقديم تنازلات أحادية الجانب أو تصديق الوعود الأميركية؟على صعيد آخر، تطرح الصين مشكلة أكثر تعقيداً، حيث عمد الرئيس الصيني، شي جينبينغ، إلى تكثيف تحركاته ومواقفه العدائية، لكن الولايات المتحدة والصين تتقاسمان مصالح مشتركة على مستوى محاربة التغير المناخي والإرهاب والحد من الانتشار النووي، ويتعلق التحدي الحقيقي بإطلاق مسار يراعي الطموحات الصينية في المسائل الخلافية ويستفيد من تعاونها في المجالات التي تهمّ الطرفَين.لكن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن اختار ومستشار الأمن القومي جايك سوليفان إطلاق مواجهة شاملة، خلال أول لقاء لهما مع دبلوماسيين صينيين في مدينة «أنكوراج» في ألاسكا، في وقتٍ سابق من هذا الشهر، فعرض المسؤولان الأميركيان أخطاء بكين الداخلية والخارجية أمام الصحافيين والكاميرات. كان يُفترض أن يتوقعا رداً صارماً من الدبلوماسيين الصينيين، وهذا ما حصل خلال خطاب هجومي مدته 16 دقيقة، لكن بلينكن بدا متفاجئاً بهذا الموقف، وهاجم الصينيين مجدداً، ثم قدّم سوليفان تفسيراً اعتبره الصينيون ساذجاً ومتغطرساً، حين تكلم عن أسباب تفوّق النظام الأميركي.لا ضير من الوقوف في وجه الصين دفاعاً عن القيم والمصالح الأميركية، لكن كان بايدن والدبلوماسيون في فريقه يخوضون حملة تهدف إلى استرجاع الحلفاء، بعد أربع سنوات قاتمة من عهد ترامب. يفكر عدد من هؤلاء الحلفاء بالانضمام إلى تحالف جانبي ضد الصين، لكن لا يوافق آخرون على هذا التوجه ولا يرحّب الكثيرون بعلامات الحرب بين واشنطن وبكين.يدرك بايدن هذا الواقع لحسن الحظ. حين سُئِل خلال مؤتمره الصحافي، منذ ايام، عن احتمال تشديد السياسات التجارية تجاه الصين غداة التوتر، الذي طغى على لقاء «أنكوراج»، قال إن تلك المسائل هي «مجرّد جزء بسيط من العلاقات الأميركية مع الصين». لكن تتمحور الاستراتيجية الأميركية الأساسية، اليوم، حول زيادة الاستثمارات لمصلحة العمال الأميركيين وقطاع العلوم الأميركي، إذ أعلن بايدن أن الولايات المتحدة كانت تستثمر في السابق 2 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي لدعم العلوم، لكن تراجعت هذه النسبة اليوم إلى 0.7%، لذا ينوي الرئيس تغيير هذا الوضع والاقتراب مجدداً من نسبة 2%.برأي بايدن، يتعلق الصراع الأساسي في العالم باحتدام المواجهة بين الديمقراطية والاستبداد، ولا تقتصر هذه المواجهة على الصين بل تشمل دولاً عدة قد تكون حليفة لواشنطن أحياناً أو تتواجد ضمن الحدود الأميركية. يدرك بايدن أن هذه المنافسة مفتوحة على جميع الاحتمالات رغم إصراره على إطلاق مواقف تفاؤلية.في أفغانستان، يدعو الاتفاق، الذي أبرمته إدارة ترامب جميع القوات الأميركية إلى الانسحاب بحلول 1 مايو المقبل. أعلن بايدن، خلال مؤتمره الصحافي، أن الانسحاب في ذلك التاريخ مستحيل من الناحية اللوجستية، لكنه تعهد بالرحيل قريباً. وحين سُئِل عن احتمال بقاء القوات الأميركية هناك حتى السنة المقبلة، أجاب قائلاً: «لا أتصور ذلك»! لكن من الأصعب توقّع طريقة الانسحاب بالتنسيق مع الشركاء في حلف الناتو، ومن دون انهيار البلد. قد يفترض بايدن في نهاية المطاف أن الأميركيين ما عادوا قادرين على فعل شيء، وقد حان الوقت للرحيل بعد 20 سنة من القتال، علماً أنه كان قد شجّع باراك أوباما على اتخاذ خطوة مماثلة خلال عهده الرئاسي.على صعيد آخر، تطرح كوريا الشمالية مشكلة أكثر تعقيداً، ولن يتخلى كيم جونغ أون عن أسلحته النووية ولن تجبره الصين على فعل ذلك، وقد عمد كيم في الفترة الأخيرة إلى تأجيج الاضطرابات القائمة، وهي الطريقة الوحيدة التي يتقنها للفت الأنظار والضغط على الآخرين، فقرر اختبار صاروخَين بالستيَّين باتجاه بحر اليابان. وحين سُئِل بايدن عن ردّه على ما يحصل، قال إن تلك التجارب انتهكت قرار مجلس الأمن وإنه يتشاور مع حلفائه كي يبدي الرد المناسب، لكنه مستعد أيضاً لإطلاق بعض الجهود الدبلوماسية. كان ذلك الجواب صادقاً لأن الأميركيين لا يستطيعون فعل الكثير في الوقت الراهن.على غرار معظم الرؤساء، يفضّل بايدن أن يفكر ملياً ويحل المشاكل «الكبرى»، لذا اجتمع حديثاً مع مجموعة من المؤرخين للتكلم معهم حول فرانكلين روزفلت والرؤساء العظماء الآخرين لتحليل طريقة تعاملهم مع المشاكل. كان أوباما قد لجأ إلى هذه المقاربة في مناسبات متكررة سابقاً، وقد أراد أن يتجه نحو محور آسيا والمحيط الهادئ ويتعامل مع التحديات المطروحة في أكثر المناطق ديناميكية في العالم، بدل أن يبقى عالقاً في صراعات الشرق الأوسط الطائفية، لكنه عاد وغرق في ذلك المستنقع في مطلق الأحوال.لن يكف العالم عن الدوران، ولن تنتهي الخلافات القديمة، ولن يتوانى الحكام المستبدون المتعطشون للسلطة عن استعراض قوتهم، تزامناً مع صياغة الاستراتيجيات الكبرى أو تطوير رؤى عالمية متنافسة حول الفلسفات السياسية. بعبارة أخرى، يصعب أن يحارب المسؤولون المشاكل اليومية تزامناً مع متابعة التركيز على الأهداف النهائية. هذا ما يحاول بايدن فعله اليوم، وهذا ما يُفترض أن يقوم به جميع الرؤساء. إنه جزء من الواجبات الرئاسية، ويبدو أن بايدن يدرك هذا الواقع. لكن يجب أن يُركّز المراقبون في المقابل على تقييم براعته في أداء هذه المهمة.