يوسف وذكريات لا تُنسى
عرفتُ هذا الإنسان الخلوق المهذب، أيام دراستي بجامعة الإسكندرية في بدايات السبعينيات، وكنتُ أراه يومياً يؤدي عمله بهمة ونشاط، ويسعى جاهداً لخدمة الأساتذة والطلبة، فهو يعمل فراشاً. واستطاع بروحه السمحة والمرحة كسب حب الجميع وعطفهم. ومن الذكريات الجميلة، التي مازالت عالقة في ذهني؛ عندما تنزل الأمطار ويشتد البرد في الإسكندرية، لا أجد مكاناً أنسب للدفء من الجلوس في غرفة تحضير الشاي، ويقوم يوسف بإعداد الشاي (الكشري) من النوعية الجيدة، التي أحضرتها معي من الكويت، وتدور أحاديث عفوية بيني وبينه، يتخللها المرح والفكاهة!لا أنسى دور يوسف عندما أقمت أول معرض للتراث الشعبي الكويتي في جامعة الإسكندرية عام 1975، ودوره في حمل اللوحات والصور والأدوات الشعبية لتعليقها وترتيبها، وتلمست سعادته الكبيرة التي ارتسمت على محياه أثناء حضور الزوار للمعرض، وتواجده باستمرار إذا ما طلب منه أي مساعدة، فهو أخ وصديق كأي من الأصدقاء الآخرين!كان ليوسف علاقات طيبة مع جميع الدكاترة والأساتذة الكبار، فهو خدوم لأقصى درجة، ولعلاقتي الطيبة معه طلبت منه، عندما أدينا الامتحانات النهائية، أن يأتي لي بنتائج المواد، وأخبرني قبل إعلان النتائج الرسمية بحصولي على تقدير جيد، وفرحت فرحاً شديداً، ووضعت يدي في جيب البنطال وأخرجت له عشرة جنيهات، فرفض أن يأخذها، وبعد محاولات عديدة أخذها على استحياء وخجل، بعد أن أقنعته أن هذا المبلغ لأجل تقديم الشاي والقهوة للطلبة الفقراء!
رجعت إلى الكويت، ومضت الأيام والشهور والسنوات سريعة، وفي أثناء تواصلي مع أحد الطلبة المصريين، الذي كان زميلاً لي على مقاعد الدراسة وأصبح الآن أستاذاً كبيراً في الجامعة، سألته عن أساتذتنا الذين تتلمذنا على أيديهم، وأخبرني أن جميعهم توفاهم الله برحمته، ولا يوجد أحد منهم على قيد الحياة، إلا أن يوسف مازال موجوداً وشارف عمره على السبعين، وأصبح رئيساً للمستخدمين (الفراشين)!وقال: يوسف ما زال يتذكرك، وبكى بحرارة عندما سمع اسمك، ويتذكر قصة الجنيهات العشرة المكافأة، عندما أخبرك بنتيجة الامتحانات!هل تعرف يا دكتور عادل سبب بكاء يوسف؟قلت: لا. قال: إنه لأول مرة بحياته يلمس "العشر جنيهات"، وذلك أن راتبه الشهري كان في ذلك الوقت ثلاثة جنيهات ونصف الجنيه!الحديث المؤثر، الذي دار بيني وبين صديقنا الدكتور عن يوسف أنزل دمعة ساخنة من عيني، وأعاد ذكريات الناس الطيبين!
العبدالمغني مع صديقه يوسف