ربما نتعلم منهم *
في ذاك الصيف الذي يبدو الآن شديد البعد أو كأنه جزء مما علق في الذاكرة، ربما من فيلم قديم بالأبيض والأسود عندما كانت المحطة التلفزيونية الوحيدة المتاحة في بعض دول الخليج هي محطة شركة أرامكو، التي كانت تفتح لساعات محددة في اليوم، الأمر الذي يبدو بعيد التصديق لأبناء الجيل الحالي، حيث مئات المحطات التلفزيونية وثراء في المواد المتوافرة للترفيه والثقافة لمن يرغب رغم أن الغالبية تميل للأولى وتنسى أن هذا الفضاء الذي شرع أبوابه مع تطورات التقنيات الحديثة قد فتح عوالم واسعة للمعرفة والعلم والتأكد من المعلومة والثقافة. في ذاك الصيف كانت الرحلة طويلة إلى تلك المدرسة الصيفية الداخلية للبنات بالريف الإنكليزي والهدف هو تعلم اللغة الإنكليزية ومهارات الحياة بعيدا عن حماية العائلة والأهل ودلع الجدات! هناك كان الاستقبال بالتذكير بقواعد الحياة اليومية كل شيء بموعد ولكل أمر وقت محدد، إلا أن الأمر الذي كان أكثر غرابة للفتيات المراهقات القادمات من دفء بيوتهن في الخليج إلى برودة الثقافة البريطانية وبعدها عن العاطفة كما تبدو في المعاملة اليومية، الأكثر غرابة هي تحديد كمية المياه التي باستطاعة كل فتاة استخدامها يوميا للاستحمام! ضحكت الفتيات عندما رأين أن الكمية هي أقل مما يستخدمنه لغسل أسنانهن في الصباح والمساء وما بينهما، هن القادمات من بلاد لا تعرف المطر إلا لسويعات قليلة وفي الأغاني التي تحمل كثيراً من الحميمية وتعبر عن الحاجة له، هن القادمات من تلك الجزيرة التي تغرق شوارعها في "شبر مية"!! يستغربن أن تكون هذه الكمية المحددة لهن في بلاد يكثر فيها المطر حتى تطفو مياه أنهارها وبحيراتها به. ذاك البلد الذي عرف بكثرة غيومه حتى أن ظهور الشمس كان يعد أمراً يدعو للاحتفال بالخروج والجلوس في الحدائق العامة مع التخلص من كثير من الملابس!!
تلك كانت التجربة الأولى وتداعت معها الكثير من المفاجآت والشقاوات والضحك البريء على الالتزام الصارم الذي لم تعرفه تلك الفتيات القادمات من أرض النخيل والتمر وندى المساءات الصيفية قبل أن تكثر المكيفات التي قتلت حتى تلك المتعة وجعلتها من ذكريات الماضي البعيد. بعدها تعلم الفتيات أن المحافظة على الماء ومحدودية كميات الأكل التي تقدم لهن والاقتصاد في كل شيء هو ربما نتاج ما عانته تلك البلاد في الحرب العالمية الثانية والنقص الشديد الذي هو جزء من كل الحروب، بل حيث يصبح الماء والطعام مواد للاقتتال أو أسلحة حرب هي الأخرى. الآن وبعد سنين طويلة ومع الانحسار الاقتصادي والانكماش الذي جاء به الفيروس، وربما ما قبله من تحولات في الاقتصاد العالمي وأسباب عديدة أخرى، كلها أدت إلى عدم توافر كل ما كان متاحاً بشكل من أشكال "المشاع"، ومع هذا بدأ البعض يفهم ربما كيف أن المرء الذي يعاني النقص في الاحتياجات الأساسية يعتاد على الاقتصاد وعدم الإسراف والنظر لأبعد من اللحظة والتفكير في أبعد من النفس أو الأنا فقط ومن بعدي الطوفان. ربما هو الدرس الذي نتعلمه من هذه المرحلة الأكثر حرجا في العقود الأخيرة لتساوي التأثير بها على كل شعوب الأرض في المعاناة والإغلاق المستمر الذي أدى كثيرا للتحول الى العالم الافتراضي في كل شيء من المبيع والشراء حتى الصداقات والعلاقات الجميلة منها وتلك التي لا تنمو إلا في العتمة!! ولكن هل تعلم الكثيرون منا معنى المحافظة على "النعمة" والتخطيط لأبعد من النفس واللحظة والتفكير أن ما نراه اليوم أمر اً متاحاً وعادياً قد يصبح غداً وفي لحظة سريعة أمراً بعيد المنال، ربما نتمناه أو نشتهيه أو الى شيء من الأحلام الجميلة كتلك اللحظات الجميلة في بعض الأفلام الكلاسيكية التي كانت تعرض على شاشة تلفزيون "أرامكو"؟ بعد عام من التباعد وعدم التنقل والسفر ومحدودية الحركة والتواصل والإغلاق التام أو الجزئي والخسائر التي كثير منها أكبر من فقدان علبة الشوكولاتة البلجيكية الشهية عن أرفف السوبرماركت، بل أساسها ألا أحد نعرفه لم يفقد عزيزا وحبيبا رحلوا دون وداع يليق بهم، ودون أن نغلق ذاك الفصل من الحياة معهم. بعد كل ذلك يعيد السؤال نفسه تكرارا ومرارا، فلو عادت المطارات لازدحامها والمتاجر لاكتظاظ الأرفف بما لذ وطاب والشوارع والمقاهي والمطاعم والمسارح ودور عرض الأفلام وكل الصخب الذي كان، لو عاد هل تعلمنا كيف نمسك باللحظة وبالأحبة وباللذة البعيدة عن الحسيات السطحية، هل تعلمنا كما تعلم بعضهم بعد حربهم العالمية الثانية ومعاناتها التي لا تزال ترسم حياتهم اليومية بكثير من الحرص والحذر عكس الإسراف والبذخ والاستهتار الذي يعيشه بعضنا أو ربما معظمنا؟ * ينشر بالتزامن مع "الشروق" المصرية