مع تعقُّد ملفات الأمن والسياسة وتشابكها في العراق، تبدو البصرة، التي يزورها رؤساء الحكومات العراقية كلما مروا بمأزق، بمثابة مفتاح إنقاذ العراق اقتصادياً وسياسياً، أو التخفيف من احتقاناته، رغم أنها عادة ما تطلق شرارة الاحتجاجات وأشكال التمرد، فالمدينة نافذة وحيدة على البحر المحمل بذاكرة الانفتاح والاستقرار الغابر، وهناك أيضاً الجوار الخليجي المزدهر البعيد عن بؤر التوتر شمالاً وشرقاً.وفي ذروة الانفتاح العربي على بغداد، زار رئيس الحكومة العراقية مصطفى الكاظمي أمس البصرة، وأعلن وضع حجر الأساس لتنفيذ المرحلة الأولى من ميناء «الفاو الكبير»، وفق العقود الخمسة الموقعة، وهي: نفق قناة خور الزبير، والأرصفة الخمسة للحاويات، وردم ساحة خزن ومناولة الحاويات، وحفر القناة الملاحية الداخلية وحفر وتأثيث القناة الملاحية الخارجية، والطريق السريع الرابط بين ميناءي الفاو وأم قصر.
وخلال الأعوام الأخيرة، ومع تراجع الرهان على أسواق النفط، يتزايد الاهتمام بـ «الفاو الكبير»، لكن الميناء، كما يدرك العراقيون، هو رهن القرار الدولي والإقليمي، لأنه يخدم السوق العالمي. وحتى تكتمل أول خمسة أرصفة للشحن، سيقوم السوقان الآسيوي والأوروبي باختبارات، حسبما يقول الخبراء، وهي تعتمد على مؤشرات غاية في التعقيد، ضمن بلد لا يمتلك بعد البنى الكافية أو خبرات الإدارة المطلوبة.ولا ننسى أن هذا هو الجزء البحري من الحكاية، أما في «البري» الواصل بين البصرة وشواطئ المتوسط فمشروع سكك القطار الحديثة لم يبدأ بعد، فتركيا مثلاً تريد الاستثمار في ست خطوط للسكك الإكسبريس تربط «الفاو» بموانئها على المتوسط، لكن هذه الخطوط تمر بمناطق متنازع عليها كردياً وعربياً، وسنياً وشيعياً، وفيها خلل أمني وصراع، خصوصاً بين حلفاء إيران وخصومهم، وعلى تخوم سورية وتركيا وكردستان.
وللتوازن بين هذه الصراعات توجد على طاولة الحكومة العراقية أفكار حول إشراك الكويت والإمارات والسعودية وقطر، في مستويات متعددة، لكن ليس هناك بعد صيغة شراكة محسومة. وهناك صراع محلي بين البصرة وبغداد على مفهوم إدارة الميناء، ويريد الكاظمي تأسيس سلطة ميناء الفاو المستقلة، بينما تطمح البصرة إلى أن يكون الميناء جزءاً من منشآت إقليم البصرة، الذي تطمح إليه على غرار إقليم كردستان الشمالي، استفادةً من نصوص اللامركزية الإدارية في دستور العراق، وأمام ذلك عوائق وعوائق.ويقول خبراء إن العراق ليس لديه آمال انتعاش اقتصادي كبيرة في المدى المنظور، بعد التذبذب المتواصل في أسواق النفط، إلى جانب الخلل الأمني والسياسي المتواصل، وحينها لا يبقى سوى مخطط ميناء الفاو، إذ يمكن عزله عن المشاكل نسبياً، كمنشآت النفط، والعمل بشراكات تضمن تعظيم عوائده.