الحقوق لا تتجزأ
كُتب في الفترة الأخيرة العديد من الدراسات والمقالات حول حرية التعبير وأهميتها وضرورة احترامها في المجتمعات الديمقراطية، ولكن لا يمكن النظر إلى هذه الحرية بشكل منفصل بل باتساقها مع حريات أخرى كحرية الضمير أو الوجدان، وحرية المعتقد أو الدين.ومن اللافت للنظر في هذا المجال أن الوثائق الخاصة بحقوق الإنسان تجمع دائما بين حرية الفكر والوجدان والدين (المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948، والمادة 18 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية 1966، والمادة 9 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان 1950، والمادة 12 من الاتفاقية الأميركية لحقوق الإنسان 1969، والمادة 30 من الميثاق العربي لحقوق الإنسان 2004)، فهي إذاً حريات متلاصقة يتم احترامها بمجملها ولا يجوز التفريق بينها أو تجزئتها، ولا ننسى أن حقوقا أخرى مرتبطة بهذه الحقوق، وتعزز تطبيقها مثل: الحق في الاجتماع، واحترام كرامة الإنسان، واحترام حقوق الآخرين.وإذا أكدنا تعاضد هذه الحقوق فيما بينها، وعدم قبول تجزئتها، وانسجامها مع بعضها، فيجب أن يترك للقضاء الوطني في مرحلة أولى السهر على حسن تنفيذها، ويأتي في مرحلة لاحقة دور القضاء الدولي، ونقصد هنا المحاكم الإقليمية لحقوق الإنسان: مثل المحكمة الأوروبية والمحكمة الأميركية لحقوق الإنسان، لتولي مهمة مراقبة حسن التنفيذ إذا لم يتوصل القضاء الوطني لقرارات مرضية لكل الأطراف.
نصوغ هذه الأسطر اليوم ونذكّر بهذه المعطيات، وإن كانت معروفة للمتخصصين وللناشطين في مجال حقوق الإنسان، لنشير إلى نقاشات دارت ولا تزال تدور في الأوساط الفكرية والثقافية الفرنسية بخصوص ما دار من أحاديث، وما نُشر من مقالات، وما قيل وعرض على وسائط الإعلام المسموعة والمرئية بخصوص الرسوم المسيئة إلى الرسول الكريم محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم.ونضرب مثالا عن هذه النقاشات الأخيرة، والتي نراها جريئة في بعض الأحيان، تبعا لما يتم التصريح به من قبل بعض المثقفين والمتخصصين الفرنسيين من أن التأكيد على حرية التعبير فيما يتعلق بهذه الرسوم المسيئة طغى على التأكيد على حرية الضمير والوجدان، وأن هناك تقديسا لما هو غير مقدس مما أدى إلى تجنب توجيه انتقادات لهذه الرسوم، وهو ما تم اعتباره تراجعا لا احتراما، لا لحرية الضمير والوجدان فقط، ولكن أيضا لحرية التعبير (مقابلة مع أحد المتخصصين في العلوم الاجتماعية والسكانية، صحيفة اللوموند الفرنسية، 10/ 4/ 2021، ص 28). وطُرح سؤال مهم وحساس: إذا كان من المفروض أن تهدف حرية التعبير إلى تغذية الديمقراطية وتعزيزها، فهل "تحقير" دين يصب فعلا في هذا الهدف؟ تحتد النقاشات في الدول الأوروبية، وبخاصة في فرنسا، ومنذ عدة أشهر حول تطبيق بعض الحقوق واحترام عدد من الحريات كحرية التعبير، وحرية المعتقد والضمير والدين، ويتزايد الاهتمام بمفاهيم مختلفة وواقع تطبيقها في عدد من هذه الدول وضرورة مراجعتها أو حتى مواجهتها، ومن هذه المفاهيم: الإسلاموفوبيا (رهاب الإسلام)، والتمييز، والتاريخ الاستعماري للدول الأوروبية، وما بعد الاستعمار... الخ.وإذا شهدنا ابتعاد بعض المفكرين والباحثين والمتخصصين وتجنبهم لمثل هذا النقاشات وما يدور حولها، سببه وما قد يسبب لبعض من يشارك فيها من إزعاجات ومضايقات وبخاصة إن كان يسير في عكس التيار الطاغي حاليا والذي ينكر أحيانا كثيرة وجود بعض أشكال الإسلاموفوبيا، أو التمييز في الوظائف وفرص العمل لمن أصولهم وأصول آبائهم وأجدادهم أجنبية، أو يحاول إخفاء الوجه القبيح للمرحلة الاستعمارية أو ينكره، أو لا يريد أن يبحث فيما بعد الاستعمار وضرورة معاملة كل الشعوب والدول على قدم واحد من المساواة؛ نقول إن تجنب بعضهم الخوض في هذه النقاشات، فإن مما يثلج الصدر أن لا يزال هناك من يملك الجرأة والشجاعة فيتطرق لهذه الأمور، ويحاول أن يركز على جوانبها العلمية والثابتة، ويشكك ويناقش ولا يقبل مغمض العينين بالتوجه العام للأفكار والأقوال وحتى لو كانت طاغية ومنتشرة بشكل واسع، لأنه يراها لا تحيط بالقضية من كل جوانبها، ولا تعالجها من منطلقات عقلانية وعلمية وتاريخية وثابتة، ولا تقف على حقيقة مضمونها، وبخاصة إن سعت لتظهر ما تريد إظهاره وتتعامى عما يجب عدم إغفاله، ومن المؤكد أن من يدلو بدلوه بهذا الشكل، يساعد في توضيح كل الأبعاد وما يهمنا منها هنا هو قضية الرسوم المسيئة التي يجب أن يؤكد التطرق إليها تكامل الحقوق وعدم تجزئتها، مما يعني أن احترام حرية التعبير لا ينفك عن ضرورة احترام حرية الضمير والوجدان والدين، مما يرادفه احترام حقوق الآخرين، ومن بينها احترام قناعاتهم الدينية أيضا، وعدم الإساءة إلى هذه القناعات والمعتقدات الدينية برسوم أو أقوال أو أفعال. وتندرج في واقع الأمر هذه المواقف الشجاعة والجريئة، وعلى قلتها، في مجال التطبيق الفعلي لحرية التعبير بغرض تعزيز المجتمع الديمقراطي الذي تحرص عليه كل الدول الأوروبية، ولعلها نجحت في ذلك!* أكاديمي وكاتب سوري مقيم بفرنسا.