التعامل الحسن قد لا يناسب السياسة الخارجية
أثبت الرئيس الأميركي جو بايدن منذ الأيام الأولى من عهده حُسن نواياه وتمسّكه بالقيم من دون تكبّد خسائر كبرى، فانضمّت الولايات المتحدة مجدداً إلى اتفاق باريس للمناخ ومنظمة الصحة العالمية، ونجح بهذه الطريقة في تهدئة الحلفاء الأوروبيين بعدما أثار دونالد ترامب حفيظتهم سابقاً، فأكد أهمية القيم الغربية عبر مهاجمة الصين لأنها دمّرت الديمقراطية في هونغ كونغ، ومهاجمة روسيا لأنها لا تكف عن اغتيال أعداء النظام.لكن لا تُحقق الدول أهدافها دوماً عبر الاكتفاء بالتعامل الحسن مع الآخرين، بل تتمحور اللعبة الحقيقية حول التفوق على الآخر تزامناً مع منع خصوم مثل الصين وروسيا وإيران من إحراز التقدم. أدركت الإدارة الأميركية مدى صعوبة الوضع حين عقدت الصين وإيران اتفاقاً استثمارياً مدته 25 سنة لضخ 16 مليار دولار سنوياً في الاقتصاد الإيراني، فتأثر اقتصاد إيران سلباً بالعقوبات الأميركية الصارمة وقاوم المصاعب في السنة الماضية بفضل مساعدات خارجية بقيمة مليار دولار تقريباً. ستكون الأموال النقدية الصينية مقابل النفط الإيراني أداة مثالية لكسر الحصار والتصدي لواشنطن، بدأ النقاش حول هذا الاتفاق منذ أربع سنوات، لكنّ توقيت إقراره اليوم يحمل دلالة كبرى.تُعتبر الواقعية السياسية مقاربة غير أميركية، فهي عبارة عن لعبة شاقة يخوضها الأمراء والحكّام في أوروبا، لكن المأساة الحقيقية للكفاءة السياسية الأميركية تتعلق بالصدام الأزلي بين الخير والتطورات الجيوسياسية، وتنطبق هذه الفكرة على الشرق الأوسط تحديداً، حيث تخوض أكبر قوى العالم المعارك لنيل النفوذ واكتساب الأملاك منذ أربعة آلاف سنة. ما الذي يستطيع بايدن فعله لمواجهة التحالف غير الرسمي بين بكين وموسكو وطهران؟ في المقام الأول لا بد من التشديد على الخطوات المرفوضة، ويجب ألا يظن أحد أن ترويض قوة ثورية مثل إيران ممكن، إذ لا تريد طهران زيادة نفوذها داخل النظام العالمي فحسب، بل ترغب في إسقاط ذلك النظام.
لذلك، يجب ألا تتكرر الأخطاء التي ارتكبها الرئيس السابق باراك أوباما، حين سمح لروسيا بفرض سيطرتها في سورية، فلن تتردد الصين وروسيا في استمالة الحكام «السيئين» بنظر الغرب واستغلالهم في مساعيهما لإخراج واشنطن من دائرة القوى العالمية النافذة. على صعيد آخر، يجب ألا تضعف التحالفات الأميركية، من إسرائيل إلى دول الخليج، لأن هذا الوضع يضمن تقوية إيران، ولإثبات الكفاءة السياسية لا بد من بناء التحالفات ضد الجهات التي تُهدد أمن الولايات المتحدة واستقرارها، فهل تستطيع أي جهة أخرى أن تحافظ على نظام دولي لائق؟يجب أن تبقى الولايات المتحدة «منارة للأمل» في جميع الظروف طبعاً وتتكل على قوة النموذج الذي تقدّمه للعالم كما قال بايدن في حفل تنصيبه، ويُفترض أن تطلق الإدارة الأميركية مبادرات حسنة حين تسنح لها الفرصة، لكن يجب ألا ينسى بايدن في المقابل أن القوة هي العملة الأكثر تأثيراً في العلاقات بين الدول، لذا تستدعي الظروف أحياناً تبنّي تصرفات «سيئة» لتحقيق أفضل النتائج.