كان عبدالمنعم مدبولي رجل المهام الصعبة، وحلَّق منفرداً بمواهبه المتعددة، ولم يرتكن إلى فكرة النجومية، أو البحث عن فرصة البطولة المطلقة، وبعد تجربته في فرقتي جورج أبيض وفاطمة رشدي، التحق في بداية الخمسينيات بفرقة المسرح المصري الحديث، التي أسسها الفنان زكي طليمات، وقدَّمت بعض الأعمال ذات الطابع التراجيدي، وتوقف نشاطها في عام 1952.وفي العام ذاته، قاده طموحه الفني إلى تأسيس فرقة «المسرح الحُر»، واضطلع بالإخراج والتمثيل في أعمالها، ومن أبرزها «الأرض الثائرة»، و«حسبة برما»، و«الرضا السامي»، و«خايف أتجوز»، و«مراتي نمرة 11»، و«كوكتيل العجائب»، وشارك في كتابة بعض العروض مثل «كفاح بورسعيد»، وكانت عبارة عن مجموعة من المشاهد (اسكتشات) أخرجها الفنانان سعد أردش، وصلاح منصور.
وبعد إنشاء التلفزيون المصري في عام 1960، انضم مدبولي إلى «فرقة التلفزيون المسرحية»، وكانت تضم مجموعة من الفرق الكوميدية والتراجيدية والفنون الاستعراضية، ويرأسها الفنان السيد بدير، وأسند الأخير إلى مدبولي مسؤولية «فرقة المسرح الكوميدي»، وأخرج العديد من أعمالها، منها «جلفدان هانم»، و«أنا وهو وهي»، و«مطرب العواطف»، و«أصل وصورة»، و«حلمك يا شيخ علّام»، و«المفتش العام»، و«السكرتير الفني»، و«وسط البلد».في تلك الفترة، تحوّل مدبولي إلى شعلة من نشاط وحركة دائبة، وبات حديث الوسط الفني، وأثار دهشة زملائه بقدرته على التوفيق بين مواهبه المتعددة وعمله كأستاذ في كلية الفنون التطبيقية، وفي غمار مهامه الصعبة، استعان به أصحاب الفرق المسرحية الخاصة لإخراج بعض أعمالهم، ومنها «فرقة إسماعيل يس»، التي أخرج لها عملين، هما «3 فرخات وديك»، و«أنا وأخويا وأخويا».وأسهم «ساحر الارتجال» في تأسيس فرقة «ساعة لقلبك» المسرحية، التي ضمت مجموعة كبيرة من نجوم البرنامج الإذاعي الشهير، الذي كان يحمل الاسم ذاته، مثل محمد أحمد المصري (أبو لمعة)، وفؤاد راتب (الخواجة بيجو)، ومحمد يوسف (المعلم شَكَل)، وتولى مدبولي إخراج عروضها، ومنها «أنا مين فيهم» (1958)، و«دوَّر على غيرها» (1959)، و«طلعت لي في البخت» (1960)، و«البعض يفضلونها قديمة» (1961).
ولم تصمد تلك الفرقة طويلاً في الساحة المسرحية، لأسباب إنتاجية، وتفرق شمل أبطالها بين الفرق الأخرى، واندثرت جميع أعمالها، وبقيت تسجيلات برنامج «ساعة لقلبك» في أرشيف الإذاعة المصرية، كشاهد على بزوغ موهبة مدبولي وزملائه، ورغم مرور نحو 70 عاماً على بث هذا البرنامج الفكاهي، فإنه لايزال يحظى بنسبة استماع عالية من هواة البرامج القديمة في الراديو ورواد مواقع الإنترنت بمختلف أعمارهم.
نشنت يا ناصح
شارك عبدالمنعم مدبولي في عروض الكثير من الفرق المسرحية، وأخرج لفرقة «المسرح الضاحك» عرضاً بعنوان «مطار الحب» (1968)، وشارك في بطولته مع ميرفت أمين، ويوسف شعبان، وفي العام التالي أخرج «البنات والثعلب» ولفرقة «عمر الخيام» مسرحية «الشنطة في طنطا»، وقدَّم عملين متباعدين لفرقة ثلاثي أضواء المسرح التي أسسها مع ثلاثي أضواء المسرح سمير غانم، وجورج سيدهم، والضيف أحمد، والعملان هما «حدث في عزبة الورد» (1968)، و«نشنت يا ناصح» (1995) بطولة جورج سيدهم، وأحمد آدم، وحنان شوقي، وفاروق فلوكس، وحسين الشربيني. كما أخرج مدبولي لفرقة «الكوميدي المصرية» مسرحيات: «طبق سلطة» (1969)، و«العبيط» (1970)، و«يا ما كان في نفسي» (1974)، وحين أسس الفنان أمين الهنيدي فرقته المسرحية، استعان بصديق عمره ليخرج عروضها، ومنها «سبع ولا ضبع» (1972)، و«أجمل لقاء في العالم» (1973)، و«أنا آه أنا لأ» (1977)، وكذلك أخرج لفرقة «الريحاني» مسرحيتي «الملاك الأزرق» (1974)، و«أولاد علي بمبة» (1975)، وأخرج لفرقة «محمد نجم» مسرحيتي «الواد النمس» (1983)، و«البلدوزر» (1986).وارتحل «المخرج الجوَّال» إلى فضاء المسرحيات المصوَّرة، عندما انتشرت تلك الموجة خلال فترة التسعينيات، إثر تراجع الإقبال على دور المسرح، واقتصار النشاط المسرحي على موسم الصيف فقط، ولجأ المنتجون إلى جذب الفنانين لعروض اليوم الواحد أمام الجمهور، وتصويرها تلفزيونياً، ومن بينها مسرحية «أنا نسيت اسمي»، التي أخرجها عبدالمنعم مدبولي، وشارك في بطولتها مع محمد نجم، وإسعاد يونس، ونبيل بدر، وعبدالسلام محمد، وفؤاد خليل.حالة حب
عقب قرار بضم الفرق التابعة للتلفزيون إلى مؤسسة «فنون المسرح والموسيقى والفنون الشعبية - إدارة وزارة الثقافة» عام 1966، قرّر مدبولي وعدد كبير من النجوم آنذاك الانسحاب من عضوية فرقة «المسرح الكوميدي» بعد رفض طلباتهم الفنية والمالية، وحينها كان صديقه الكاتب والمنتج سمير خفاجي يتحمل مسؤولية تأسيس فرقة «الفنانين المتحدين» وتعاون معه نخبة من الكتّاب وكبار نجوم الكوميديا.وأخرج مدبولي باكورة أعمال «الفنانين المتحدين» بعنوان «أنا وهو وسموه» عام 1966، تأليف سمير خفاجي وبهجت قمر، وبطولة الثنائي الشهير فؤاد المهندس وشويكار، وحققت هذه المسرحية نجاحاً كبيراً ثبت أقدام الفرقة، فاستمرت مسيرتها إلى بدايات القرن الحالي - أي لما يقرب من خمسة وثلاثين عاماً - وقد قدمت خلال مسيرتها الفنية أربعين مسرحية، وكانت تقدم أحياناً في بعض المواسم أكثر من مسرحية من خلال شعبتين أو ثلاث شعب.وشهدت «أنا وهو وسموه» أول لقاء بين «ساحر الارتجال» وموسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب، الذي وضع ألحان المسرحية، وكتب أغانيها الشاعر حسين السيد، وكان حدثاً فنياً كبيراً، جذب الجمهور إلى شباك التذاكر، ودارت أحداث المسرحية حول شاب يطمح في أن يكون روائياً ولكن كل محاولاته لكتابة رواية تبوء بالفشل، بينما تؤنبه زوجته دائماً لعدم قدرته على الكتابة، وتتغير حياته بعد عودة ابن عمه المليونير المهاجر إلى الوطن. وتتابعت رحلة مدبولي مع «الفنانين المتحدين»، وأخرج مسرحية «حواء الساعة 12» عام 1968، اقتباس سمير خفاجي وبهجت قمر، وحقق هذا العمل نجاحاً جماهيرياً كبيراً، ودارت أحداثه في إطار كوميدي حول المؤلف سامي الباجوري (فؤاد المهندس)، وزوجته الغيور محاسن (زهرة العُلا)، وخلال عمله على كتابة رواية، يباغته ظهور شبح زوجته الأولى فكرية (شويكار) وتنقلب حياته رأساً على عقب.وفي العام ذاته، أخرج مسرحيتي «المغفل»، و»زنقة الستات»، والأخيرة بطولة ميمي شكيب، ونبيلة السيد، وفايزة فؤاد، وأسامة عباس، وإبراهيم سعفان ومحمد يوسف، وفي عام 1969 أخرج مسرحية «سري جداً جداً» بطولة شويكار وفؤاد المهندس، وفي عام 1971 اختتم مشواره مع «الفنانين المتحدين» بإخراج مسرحية «اللص الشريف»، وشارك في بطولتها مديحة كامل، ومحمود المليجي، وسعيد صالح، وأحمد زكي، وحسن مصطفى، وعبدالله فرغلي، ونظيم شعراوي.وشارك مدبولي بالتمثيل فقط في بعض العروض المسرحية للفرقة، ومنها مسرحية «الزوج العاشر» (1964)، إخراج نور الدمرداش، وبطولة السيد بدير، ونجوى فؤاد، وكوثر رمزي، و»البيجاما الحمراء» (1967)، وإخراج كمال حسين، وبطولة أبوبكر عزت، وعادل إمام، وعقيلة راتب، ونجوى سالم، وسعيد صالح، وفي العام ذاته شارك في «حالة حب» إخراج فؤاد المهندس، وبطولته مع شويكار، وزوزو شكيب، وسهير الباروني، وسناء يونس، ومسرحية «العيال الطيبين» (1972) إخراج حسن عبدالسلام، وبطولة نور الشريف، ونيللي، ونبيلة السيد، ونظيم شعراوي.مدرسة المدبوليزم
واستمرت رحلة «ساحر الارتجال» مع فرقة «الفنانين المتحدين» حتى انفصل عنها في عام 1973، من دون أسباب واضحة، وترك بصمته المتفردة كمخرج وممثل، وأسهم في إبراز نجومية الكثير من الوجوه الشابة آنذاك، ولعب دوراً مؤثراً في تاريخ تلك الفرقة، كواحد من أبرز مؤسسيها الأوائل، وظلت أعماله شاهدة على أزهى مراحلها، سواء على مستوى القيمة الفنية أو النجاح الجماهيري.وبعد «استراحة المحارب» انطلق مدبولي مرة أخرى، وكوّن في عام 1975 فرقته الخاصة «المدبوليزم» وقدّم من خلالها عروض مسرحيات «راجل مفيش منه» (1976)، و«حمار ما شالش حاجة» (1977)، وقام بالإخراج والتمثيل في مسرحية «مولود في الوقت الضائع» (1978)، وشاركه البطولة عقيلة راتب، ومحمد نجم، وزيزي مصطفى، وسلامة إلياس، وحسن حسين. وأسدل الستار على فرقة «المدبوليزم» عام 1979، بعد أن حققت مسرحية «مع خالص تحياتي» نجاحاً كبيراً، وأخرجها مدبولي وشارك في بطولتها مع ثريا حلمي، وفؤاد أحمد، وعماد رشاد، وسناء يونس، وفؤاد خليل، ودارت أحداث المسرحية حول هاشم (عبدالمنعم مدبولي) الذي يعمل موظفاً بإحدى الشركات، ويتعرض للعديد من المواقف الكوميدية في منزل رئيس مجلس إدارة الشركة.وحققت «المدبوليزم» نجاحاً هائلاً، وعرضت أعمالها في العديد من العواصم العربية، وطارت إلى النمسا وألمانيا، وأصبحت خير سفير للفن المصري، وقد أطلق هذا لقب «مدبوليزم» على مؤسس الفرقة خلال فترة نشاطه المسرحي في الستينيات، ونظراً لأسلوب أدائه المتفرد، وعلى الرغم من الانتقادات التي تلقاها في البداية، بسبب اعتماد أعماله على الارتجال، فإنه لاقى نجاحاً كبيراً، وأصبح ظاهرة فنية سميت «مدرسة المدبوليزم»، وتخرجت فيها أجيال من نجوم الكوميديا.«قلم رصاص» أول جائزة فنية لتلميذ «مدرسة باب الشعرية»
واجه عبدالمنعم مدبولي العديد من المواقف الصعبة، واستطاع أن يتغلب على مأساة فقده لوالده، وانطلق الطفل اليتيم صوب الكوميديا ليصبح من أبرز نجومها في الساحة الفنية العربية، وظل حتى تجاوز الثمانين من عمره يتذكر المراحل المبكرة من حياته، وكيف تخطى الحواجز في طريقه، حتى حقق حضوره المتفرد في فضاء الإبداع الفني.اعتاد الطفل اليتيم أن يذهب لأحد الشوادر بحي باب الشعرية التي تقدم عروضاً مسرحية لفرق شهيرة منها «فرقة الفار»، و»فرقة سليم»، وكان المسرح عبارة عن ساحة من دون أي ديكورات، ومنحته تلك العروض القدرة على التخيل، والخروج من أحزانه، ليضحك ويتبادل النكات مع زملائه أثناء دراسته بالمرحلة الابتدائية، وكوَّن فريقاً من التلاميذ الصغار، وكانوا يمثلون في فناء المدرسة وقت الفسحة أو في أحد الشوارع بعد انتهاء اليوم الدراسي.وكان هذا أول فريق للتمثيل كوَّنه مدبولي في حياته، وعمره لا يتجاوز الثمانية أعوام، وفي إحدى الحفلات طلب من ناظر المدرسة أن يتيح له الفرصة ليقدّم مع زملائه عرضاً مسرحياً مدته 20 دقيقة فقط، ووافق الناظر على الفكرة، وقام المؤلف والمخرج الصغير بتدريب التلاميذ على العرض، وحصل على أول تصفيق في حياته سواء من داخل المدرسة أو الجيران الذين يشاهدون العرض من النوافذ والشرفات، وانتزع ضحكاتهم ووقف يحييهم بثقة كبيرة.ونال الفنان الصغير أول جائزة في حياته، وهي عبارة عن «قلم رصاص» أعطاه له الناظر وانتهز تلك الفرصة وطلب منه إعفاءه من دفع المصروفات الدراسية بسبب ظروفه الصعبة، وعدم قدرة والدته على تحمل المسؤولية الملقاة على عاتقها من دون أن تشكو، فاحتضنه الناظر بحنان شديد، وقال له: سأعفيك من المصروفات بشرط أن تقوم بتكوين فريق للتمثيل في المدرسة تنافس به فرق المدارس الأخرى».وكلفه الناظر بكتابة هذه المسرحيات وإخراجها، وبالفعل كوّن مدبولي فريقاً متفوقاً وفاز على كل الفرق الأخرى، ونال شهرة كبيرة في أرجاء حي باب الشعرية، فقام أيضاً بتكوين فريق من أبناء الحارة، وكان يوزع عليهم الأدوار ويحتفظ لنفسه بدور البطولة، ووقتها حقق معهم نجاحاً جيداً، وانطلق بعدها إلى عالم الأضواء والشهرة.