أذاكرٌ أنت وجهي؟
في عام 1979 وبمبادرة تتسق مع شخصية الكويت الرائدة ثقافياً آنذاك أهدى نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الإعلام الشيخ جابر العلي الصباح، رحمه الله، ثلاث أغنيات جديدة من تلحين رياض السنباطي إلى فيروز مع حفظ الألقاب لجميع من زانوا حياتنا جمالاً وبهاءً، قام السنباطي بتسجيلها بصوته بمصاحبة عوده بما يشبه "الكروكي" اثنتان للشاعر اللبناني جوزيف حرب (أمشي إليك، بيني وبينك) وواحدة للمصري عبدالوهاب محمد (آه لو تدري بحالي) جميعها بالفصحى، ولكن بوفاة السنباطي وترك الشيخ جابر العلي مناصبه عام 1981 وتصاعد ضراوة الحرب الأهلية اللبنانية في السنوات التالية ووفاة زوج فيروز عاصي الرحباني عام 1986 ظلت تلك الهدية حبيسة الأدراج.تنقصنا المعلومات الكافية المتعلقة بتلك الهدية الثمينة ذات الصلة بالكويت، فقد ذكر السنباطي بصوته قبيل أحد البروفات أن العمل مهدى من الشيخ جابر العلي، ولكن بلا تبيان لطبيعة تلك الهدية، هل كانت سياسية بالجمع ما بين القامتين الرفيعتين؟ أم فنية بالمساهمة باختيار الشعراء أو الأشعار أو الألحان؟ أم مادية بتمويل تكاليف تلحين وتسجيل تلك الأعمال؟ أم مزيجا مما سبق؟ لا نعلم ولكنها في جميع الأحوال تكشف لنا عن جانب مشرق تمثّل في مدى حرص وذائقة كبار المسؤولين الكويتيين آنذاك مع تحليهم بروح المبادرة والتي شكلت شخصية الكويت الثقافية/الفنية المميزة بين ستينيات وثمانينيات القرن الماضي.في عام 1989 ومع توقيع اتفاق الطائف لإنهاء الحرب الأهلية لاح أمل إحياء تلك الهدية، إذ صرحت فيروز أثناء زيارتها للكويت باكتمال تسجيل الموسيقى مع وعد بمعاودة تسجيل صوتها قريباً على تلك الألحان، علماً أنها قامت بتسجيل صوتها أول مرة عام 1985 بشهادة الشاعر جوزيف حرب، وفي عام 1995 دخلت الاستديو ثانية لإتمام هذا العمل المرتقب، ولكن عند تناول وسائل الإعلام ذلك الخبر المثير فنياً سارع أحمد بن رياض السنباطي في إرسال مذكرة قانونية غير لائقة ولا تتناسب مع البيئة التي يتطلبها إنجاز العمل الفني مفادها رغبته في احتكار العمل، وأن يشرف هو نفسه على التنفيذ الفني والموسيقي، معتقداً أنه يرث موهبة أبيه الموسيقية لمجرد كونه ابناً له (وهي ظاهرة منتشرة) بالرغم من أنه لا يميز صوت فيروز من غيرها، وهو ما أثبته لاحقاً في مقابلة تلفزيونية على قناة الجزيرة عندما قام بنشر مقطع صوتي (كاسيت) من أرشيف والده زاعماً أنه بصوت فيروز بالرغم من أن صوت المغنية لا يشبه صوت فيروز إطلاقاً، ليقوم بتهديد فيروز بالسجن والغرامة إن لم تستجب لمطالبه، وهو ما أزعج فيروز بلا شك، وجعلها تتوقف نهائياً عن متابعة تنفيذ هذا العمل، ولا نعلم كم عدد الدقائق التي تم استكمال تسجيلها من أصل 58 دقيقة تشكل مجموع تلك الأغنيات قبل أن تتخذ قرارها بالتوقف عن التسجيل.
أحاديث كثيرة دارت على ألسنة المتذوقين والنقاد عن هذا التعاون بين مدرستين مختلفتين في الفن أحدهما تطغى عليه سمة المعاصرة وهي مدرسة فيروز، والأخرى موغلة في الكلاسيكية الشرقية مبتعدة عن الأداء الصوتي المستعار وهي مدرسة السنباطي، وأغلب تلك الأحاديث كانت تعتقد بصعوبة نجاح تلك الأعمال، إلى أن جاءت المفاجأة الأخيرة متمثلة بتسريب مقطع مدته دقيقتان فقط من قصيدة (أمشي إليك) للشاعر جوزيف حربن وفيها البيتان السابع والثامن من أصل 11 بيتاً تتشكل منها هذه القصيدة:يا لَلأَحِبَّــةِ نَهـــــوَاهـُـمْ ونَعشَـقُهُـــمحتّى إذا صَارَ يُبكِي بُعْدُهُم رحَلوا أَذاكِـــــــرٌ أنتَ وَجهِـــي إنَّهُ زَمَــــنٌعليهِ مـــرســومَةٌ أيّامُنَـــا الأُوَلُولا أخفي دهشتي من جمال هذا المقطع بالرغم من قصر مدته، والذي شهد انتقالاً مباغتاً وعذباً ما بين مقامي الهزام والعجم بالرغم من أنه ربط غير معتاد بينهما، وكأنه يرمز إلى قدرة الفنان على الجمع المتناغم والمتقن بين متضادات، ومنها هذا التعاون بأسرِه، والذي نأمل أن يتم الإفراج عنه في أقرب فرصة لتغرس زهرة جديدة وناضرة فيروزية اللون في رياض الألحان.