أخيراً، وبعد خمسة أشهر من انتهاء الانتخابات الماضية، أعلنت الحكومة برنامج عملها للسنوات الأربع المقبلة، في ظل أوضاع اقتصادية صعبة، بسبب جائحة كورونا وما ترتب عليها من أزمة سيولة لدى الدولة وانكشاف الخلل الكبير في ماليتها. وفي قراءة لهذا البرنامج، نجد أنه احتوى على بعض الإيجابيات، ولكن بنفس الوقت على العديد من السلبيات والمعالجات الخاطئة والكلام الغامض المثير للعديد من الأسئلة.
فمن ناحية الإيجابيات، نجد أن الحكومة اعترفت باختلالات هيكلية في الاقتصاد الوطني والمالية العامة، وانخفاض إنتاجية القطاع العام، وتداخل مهام الجهات الحكومية، وارتفاع تدخل الحكومة في تقديم الخدمات، وتدني كفاءة البنية التحتية وعدم تناغمها بيئيا، كما اعترفت الحكومة بضعف رأس المال البشري، وتدني جودة التعليم بفارق بلغ 4.8 سنوات، وهو اعتراف صعب وشجاع. كل هذه الاعترافات بداية جيدة لاتخاذ خطوات جادة في سبيل الإصلاح الحقيقي المرجو، ولكن التفاصيل خلت من أي سياسات واضحة لترجمة هذا الإصلاح على أرض الواقع، عوضا عن عدم التطرق بتاتا لبعض المشاكل المزمنة، التي يعاني منها الناس. فبداية، خلا البرنامج من أي ذكر لمشكلة البدون، في تجاهل تام وغير مسؤول لتكرار حالات الانتحار، التي تدق ناقوس خطر انفجار هذه المأساة الإنسانية المستمرة، فلم يعد بإمكاننا الحديث عن "استدامة الرخاء" وفئة كبيرة تعيش البؤس بين ظهرانينا. لقد آن أوان وضع حد لهذه المعاناة، فسياسة التضييق، التي يتبعها الجهاز المركزي، فاقمت المشاكل دون حلها، واستمرار التسويف والمماطلة في وضع حل نهائي وشامل سيعقد الأمور أكثر، في وقت نحن بحاجة إلى تصفير الأزمات المزمنة.أما من الناحية المالية، فتوقعت الحكومة أن يصل العجز إلى 45 – 60 مليار دينار خلال السنوات الخمس المقبلة، وأقرت بأن كلفة الإصلاح المالي والاقتصادي ستتفاقم في حال تأخر المعالجة، ومع ذلك لم تأت بأي أهداف لتقليص هذا العجز وسده، خلال السنوات المقبلة، سواء بزيادة الإيرادات أو تقليص الإنفاق. فهل يجوز المرور هكذا على مثل هذه الأرقام المخيفة من دون الوقوف بالتفصيل على كيفية معالجتها؟!فالمعلومة الوحيدة تقريبا التي أعطت مؤشرا لنوايا الحكومة في كيفية معالجة هذا الخلل هو نيتها تطبيق ضريبة القيمة المضافة، التي أقرتها بقية دول الخليج. والمشكلة بهذه السياسة ليس فقط ارتباطها المفترض بمشاركة الناس باختيار حكومتهم من باب (No taxation without representation)، بل تتعداه لما هو أعمق، فالدول المتقدمة تفرض الضرائب، لكي تستطيع تقديم الخدمات الأساسية مثل الأمن والتعليم والصحة والمساعدات للطبقة الفقيرة أو العاطلة عن العمل، لكن الحكومة عبر تطبيق هذه الضريبة لا تريد تقديم الخدمات، بل تريد تمويل رواتب عشرات الآلاف من البطالة المقنعة في وزارات الدولة ممن لا حاجة فعلية إليهم، ويساهمون في تعقيد المعاملات. أي أن الحكومة تريد أن تجبي الضرائب للحفاظ على جهاز بيروقراطي فاسد يساهم في تعطيل الإنجاز بدلا من تسريعه!فالأَولى قبل التحدث عن ضريبة مضافة هو التخلص من هذا القطاع الحكومي المتضخم وترشيقه، من أجل خفض الإنفاق العام الذي يشكل فيه بند الرواتب 50% من المصروفات، خاصة أن الحكومة تطرقت في برنامجها إلى دمج وتقليص الجهات الحكومية ذات الاختصاص المتشابه، وتبسيط الإجراءات وإعادة هيكلة القطاع العام لتحويل الحكومة من التشغيل إلى وضع السياسات العامة والتنظيم. كل تلك الأهداف ممتازة لكن يستحيل تطبيقها من دون التحدث صراحة عن مآل عشرات آلاف الوظائف، التي من المفترض أن تلغى من الوزارات، وهو الفيل الموجود في الغرفة والذي لا تريد الحكومة (ولا المجلس) التحدث عنه.فخفض القطاع العام المتضخم ليس مجرد ضرورة لخفض الإنفاق العام لضمان استدامة مالية الدولة، بل هو ضرورة لتحقيق أهداف أخرى مثل مكافحة الفساد، الذي يستحيل تحقيقه -مهما بلغ تشديد الرقابة- في ظل وجود هذا الغول البيروقراطي، الذي هو بحد ذاته يعتبر البيئة الحاضنة للفساد. ولا يمكن تحويل الكويت لمركز مالي وتجاري ولا تشجيع الاستثمار الأجنبي في ظل تعقيد الإجراءات، خاصة في ظل وجود نظام الكفيل الفاسد -والذي لم تتطرق له الحكومة في برنامجها- مما أدى إلى تفكير الاستثمارات والمشاريع الوطنية في الهجرة للخارج.نعم الحكومة ذكرت في برنامجها أنها ستشرع في برنامج خصخصة، لكن من غير المقبول عدم التطرق لتفاصيل هذا البرنامج ومدته الزمنية والمؤسسات المستهدفة، خاصة أنه مضى على تشكيل المجلس الأعلى للتخصيص أكثر من 8 سنوات، دون أي انتاج يذكر. كما يجب أن يصاحب ذلك برامج أخرى تجعل توظيف المواطن جاذبا أكثر لأصحاب الأعمال من الوافد، وهذا يتطلب رسم سياسات على أعلى المستويات، لا أن توكل لمؤسسة فاشلة مثل الهيئة العامة للقوى العاملة، كما ذكرت الحكومة في برنامجها. أما إطلاق ضريبة على أرباح الشركات فيجب أن يكون أولوية ويتم ربطها بمدى توظيفها للمواطنين، لا مجرد (فكرة) يتم تقييمها الآن (لتطبق مستقبلا).وقبل أن نتحدث أصلا عن الخصخصة وإقناع المواطنين بترك وظائفهم الحكومية المجزية الآمنة، يجب أن تعالج الحكومة أزمة الإسكان، التي تعتبر أكثر عامل يزيد من تشبث المواطنين بالوظائف الحكومية والمطالبة بالمزيد من الزيادات. فمن غير المقبول طرح الحكومة مشروع الرهن العقاري، قبل تقديم أي حلول لأساس الأزمة وهو قلة المعروض واحتكار الدولة وتجار العقار للأراضي وتحول المناطق السكنية إلى استثمارية. إن طرح مشروع الرهن العقاري في ظل ظروف السوق الحالية قد يؤدي إلى نتائج عكسية ويرفع أسعار العقار المرتفعة أصلا، ويجعل المواطن أسيرا البنوك لفترة أطول. ولا أبالغ بالقول إن حل الأزمة الإسكانية هو المدخل لإصلاح مالية الدولة وضمان استدامتها، وهذا يحتاج إلى مقال منفصل لشرحه.أما عن التعليم، فكل ما احتواه البرنامج كلمات منمقة ومكررة في عدة بنود، وفارغة من المضمون مثل (تطوير) دون أن يبين ما هو هذا التطوير وكيف سيتم تطبيقه! والأمر ذاته تكرر مع ملف الصحة، باستثناء عبارة خجولة وهي "تفعيل شراكة القطاع الخاص والدولي في إدارة وتشغيل المستشفيات"، بينما المطلوب هو الذهاب إلى أبعد من ذلك بتفكيك كامل لوزارة الصحة واستقلالية المستشفيات واقتصار دور الوزارة على التنظيم، تطبيقا لهدف الحكومة الذي ذكرته بنفس البرنامج وهو "تحويل الحكومة من التشغيل إلى التنظيم".الزمن تغير ودول الخليج ماضية في إصلاحات جذرية تقلل من الإنفاق العام والمركزية والبيروقراطية، التي دمرت بيئة العمل الصحية وكبحت الإبداع وإطلاق طاقات الشباب، ونحن ما زلنا أسرى المناكفات السياسية التافهة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية. فهل يعي المسؤولون خطورة الوضع ويتحلوا بالشجاعة المطلوبة لمصارحة الشعب بأن زمن الترف السياسي قد انتهى، أم سنظل على "طمام المرحوم"، لينتهي بنا المطاف إلى نفس النتائج الكارثية التي وصلت إليها دول أخرى نتيجة نماذج فاسدة في إدارة الدولة والاقتصاد؟!
مقالات
وجهة نظر : برنامج حكومي أكثر صراحة لكن مازال قاصراً
16-04-2021