موسم سقوط الأوهام*
ما إن يبدأ حتى تتساقط كثيراً من أوهامنا وتصوراتنا عن أنفسنا إذا ما أردنا أن نقرأ أعمق مما يدور ويكتب من مقتطفات هنا وهناك، في البدء يسقط مفهوم الشعب المؤمن حقا عندما يتحول الإيمان إلى شكل من أشكال التفاصيل الشكلية أو الطقوس اليومية فقط التي يؤديها الكثيرون ربما بدافع تصورهم الناقص عن الإيمان أو ربما بدافع الخوف من "جهنم". ومن ثم يسقط مفهوم المجتمعات المتماسكة، فها هي الجمعيات الأهلية ذات الخمس نجوم تقوم بالتسول العلني على شاشات المحطات عابرة الحدود واللغات، كل على طريقته ومن باب "كسر الخواطر" واللعب على المشاعر مما يعري كيفية عمل هذه الجمعيات وفهمها لدورها في دعم مجتمعات أهلكها الجهل والفقر.وبعدها تتضح تدريجيا ازدواجية معايير هذه المجتمعات وقلة فهمها للدين رغم أن المساجد أكثر وفرة من المستوصفات والمدارس والمستشفيات، ولا ننسى المحطات الدينية التي زحمت الفضاء، ولم تثبت أي دراسة علمية أنها أسهمت فعلا في توفير الوعي الحقيقي بمبادئ الدين لا بالمزايدة في المظاهر، وكيف تلبس وبأي رجل تدخل المنزل حتى انغمس بعضهم في التحدث عن حياة الناس الأكثر خصوصية وحميمية كما المحطات الإباحية.. وصل مرض التمسك بالقشور الى الدين، وأصبحت مجتمعاتنا الأكثر تمسكا بما تتصور أنه هو الدين أو هو الحضارة أو هو الثقافة أو هو العلم أو حتى هو الإبداع!
ما يسقط في كل عام ويفضح مجتمعاتنا أو يفضحنا هو ضحالة أو كسل المبدعين عندنا، فهم إما ارتضوا أن يكتبوا ما يملى عليهم من أصحاب المحطات أو المسيطرين عليها، وإما استسهلوا تقليد المسلسلات الهوليودية أو البوليودية أو التركية، وكأن حياتنا اليومية ليست حاشدة بالكثير مما يستحق الكتابة وتدوينه في شكل درامي أو أن يتحول إلى مادة خصبة للإبداع. في كل رمضان تكشف المسلسلات الرمضانية- التي نشاهدها أحيانا بفعل الفضول أو البحث عن جديد أو تكذيب المؤكد– كم فقراء نحن في الإبداع وإنتاج الأعمال الفنية بعد أن ارتضينا أن نكون على آخر سلم العلماء والباحثين.مسلسلات كثيرها لا يقترب من الواقع المعيش في أي بلد عربي أو أنه الواقع الذي "يبهر" بمعالجات كلها خارجية لا تتماشى مع ما يعيشه ناسنا، وقد نغض الطرف عن قلة الإبداع مثل أن يأخذ مسلسل بكامله عن مسلسل أميركي ويسقط على واقع حي شعبي أو عشوائي في إحدى مدننا، وقد لا نتوقف عند تعريب الأميركي باللغة فقط والشخصيات والأسماء، ولكن ماذا عن الأخطاء وليس كلها تارخيا، بل كثير منها أخطاء من أسس العمل الدرامي، وهي في بعض الأحيان مضحكة حد الحزن مما وصلت له حال "الاستسهال والاستخفاف" بالمواطن الذي تعود على أن تقوم حكومته بذلك ولكن ليس محطات التلفزة التي يدفع هو في الكثير من الأحيان ثمن عيشها وبقائها وإلا ما الهدف من زحمة الإعلانات المزعجة؟ أما البرامج الرمضانية الباهظة التكلفة ففي مجملها تعتمد على التسطيح إن لم نقل التسفيه والإفراط في الإغراءات المالية و"الذهب" وإلا فلماذا يشارك في مثل هذه البرامج هذا الكم ممن يسمون "النخبة" من الفنانيين وآخرون لا يجدون حرجا في التحول إلى مادة للفكاهة والضحك الرخيص جدا، في حين كانت برامج رمضان في ذاك الزمن الذي يبدو بعيدا جدا الان، تحمل الكثير من المعرفة والعلم والاطلاع على تجارب الآخرين لا الانغلاق والانغماس في التافه من الأمور واللعب على المشاعر والأحاسيس السطحية!ربما هو الشهر الذي نتعرى فيه من الكثير من شعاراتنا ومقولاتنا وحتى حكينا اليومي المليء بالأحاديث الدينية على السنة من هم أبعد ما يكونون عن قيم الدين وأكثرهم قربا لقشوره.. مجتمعات أغرقت في معاناتها اليومية أو مغريات الحياة حتى أصبح خبر بناء أطول برج أو مدينة أو حتى "أكبر دكان" يدعو لاحتفالية كبيرة فيما نستجدي من يمنحنا العلاج والدواء ونعمل أن نشتري المعرفة التي لا تشترى حقيقة بالمال وحده ولكن "من يفهم؟". يبهرك كم نبدو مكشوفين في الشهر نفسه الذي يفترض أنه الأكثر قدرة على سترنا واقترابنا من أنفسنا ومن معنى الحياة ذاك المعنى الذي فقد في زحمة الأحداث والمسميات والكذب والتطبيل ووصلات "الردح" التي أصبحت شرطاً لأن تكون إعلاميا أو صحافيا في صحفهم ومحطاتهم "المهنية" جدا!* ينشر بالتزامن مع "الشروق" المصرية