في شهر سبتمبر من السنة الماضية، بدأت محادثات السلام بين حركة "طالبان" والحكومة الأفغانية أخيراً في الدوحة قبل أن تتباطأ مجدداً، فعجز المفاوضون عن معالجة أبسط المسائل، مثل وضع أجندة لإطلاق مسار سياسي جديد، ووجدوا صعوبة متزايدة في التعامل مع المسائل الأكثر تعقيداً مثل تحديد نوع الحكومة التي يحتاج إليها البلد، لكن حين كان ممثلو الطرفَين يتناقشون في العاصمة القطرية، شهدت أفغانستان تحولات جذرية.سحبت الولايات المتحدة آلاف الجنود من أفغانستان بموجب الاتفاق الذي عقدته مع "طالبان" في فبراير 2020، فتركت وراءها فراغاً أمنياً استغله المقاتلون لمصلحتهم، وفي آخر ستة أشهر، حققت "طالبان" انتصارات بارزة في معارك كبرى واسترجعت مساحات واسعة من الأراضي، ولا شك أن هذه النتائج ستُشجّعها على متابعة القتال ورفض التسويات على طاولة المفاوضات. ما الذي يدفعها إلى الموافقة على تقاسم السلطة إذا كانت تستطيع الاستيلاء عليها بالقوة؟
يوم الأربعاء 14 أبريل، أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن سحب جميع القوات الأميركية المتبقية في أفغانستان بحلول 11 سبتمبر 2021، وواجهت إدارته الجديدة خياراً صعباً بين إتمام الانسحاب الأميركي بموجب الاتفاق المبرم مع حركة "طالبان" من جهة، وإبقاء حد أدنى من الجنود لفترة إضافية لقمع التهديدات الإرهابية المحتملة من جهة أخرى. كانت هاتان الاستراتيجيتان قابلتَين للتنفيذ، لكنّ تدهور الوضع الميداني، تزامناً مع زيادة التوقعات التشاؤمية بشأن عملية السلام، يجعل الانسحاب الأميركي خياراً مقنعاً في هذه الظروف. بغض النظر عن توجّه إدارة بايدن، يسهل أن تتوقع واشنطن رفض "طالبان" لأي شكل من التسويات واستمرار الحرب المحتدمة.
توسّع غير مسبوق
تُحقق "طالبان" اليوم نجاحاً متزايداً على جميع المستويات، فقد أصبحت هذه الحركة الآن أكبر مما كانت عليه في عام 2018 على الأرجح، فقد كان عدد عناصرها حينها يتراوح بين 60 و80 ألفا، وتسري شائعات أيضاً حول عودة كبار قادتها إلى أفغانستان من باكستان، كذلك، يملك المقاتلون فيها كميات كبيرة من الأسلحة والإمدادات بعد استيلائهم على مخازن ضخمة من معدات الجيش الأفغاني، وبالإضافة إلى الكوادر المحلية، تملك "الوحدات الحمراء" الخاصة في "طالبان"، أي القوات التفاعلية السريعة والمدرّبة، أجهزة بصرية لتسهيل الرؤية الليلية في البنادق، وهي تُستعمَل لإطلاق عمليات هجومية واسعة.على الجانب الآخر من الصراع، أصبحت القوات الأفغانية النظامية في حالة من الفوضى العارمة، حيث ينشط الجيش الأفغاني الوطني، الذي يُفترض أن يكون أساس الدفاع في البلد، وسلك الشرطة الذي يتحمل أعباء اعتداءات "طالبان" بنسبة 50 إلى 70% من قوتهما الرسمية القصوى (يصل عدد عناصرهما الإجمالي إلى 352 ألفا) بسبب خليط من الفساد والإنهاك وصعوبة إيجاد البدائل. تبقى قوات العمليات الخاصة من أفضل الوحدات الأفغانية، وهي التي تحافظ على تماسك الوضع اليوم بالتعاون مع القوات الأميركية المتبقية، لكن قوات العمليات الخاصة الأفغانية تجد صعوبة في ردع "طالبان" من دون مساعدة المستشارين الأميركيين والضربات الجوية الأميركية. في النهاية، تواجه هذه القوات عدواً يستعمل السيارات المفخخة والعبوات الناسفة، وهي أدوات مدمّرة لا تستخدمها الحكومة الأفغانية لحسن الحظ.تحتفظ الحكومة بسيطرتها على المدن، لكن لا يمكن اعتبار هذه المواقع معاقل حقيقية، فقد تسللت خلايا "طالبان" و"داعش" إلى قندهار وجلال آباد وكابول التي أصبحت محصّنة أكثر من أي وقت مضى. يشعر سكان هذه المدن بالتعب وباتت أقلية منهم مستعدة اليوم لتحمّل حُكم "طالبان" إذا كان هذا القرار يعني إرساء السلام أخيراً. في هذا السياق، يقول ناشط مثقف ومؤيد للسلام: "الحروب تتابع قتل الناس، ولن تكون الظروف التي ترافق عودة "طالبان" سيئة بقدر الحرب... لماذا يموت مئات الأفغان أسبوعياً لمجرد أن ألفَي أميركي قُتِلوا في 11 سبتمبر"؟لا شك أن نجاح "طالبان" الأخير في ساحات المعارك سيشجّع الحركة على متابعة القتال بغض النظر عن توقيت الانسحاب الأميركي. لقد اقتنع قادة "طالبان" الآن بأن المكاسب ممكنة في ساحات المعارك وسيتشجعون على تحقيق انتصارات إضافية، يزعم بعضهم علناً أن الهدف من هذه العمليات هو تحقيق انتصار كامل. صرّح قائد بارز في "طالبان" لصحيفة "واشنطن بوست" في الشهر الماضي: "هذه المعركة لا تهدف إلى تقاسم السلطة، بل تحمل هذه الحرب أهدافاً دينية لإرساء حُكم إسلامي وتطبيق الشريعة الإسلامية".كان أعضاء اللجنة السياسية التابعة لحركة "طالبان" والمشاركون في محادثات السلام في الدوحة أكثر حذراً في كلامهم، لكن تراوحت تصريحاتهم أيضاً بين مواقف متعنتة وكلمات غامضة وعقيمة، فقد ادعى طيب آغا الذي ترأس اللجنة السياسية في "طالبان" بين العامين 2009 و2015 أنه حذّر زعيم "طالبان" الراحل، المُلا عمر، من احتمال أن تطول الحرب إذا حاولت الحركة إعادة إرساء الإمارة الإسلامية، لكن من العار أن توافق "طالبان" على الدستور الأفغاني من عام 2004 وتتقاسم السلطة مع أي حكومة مُنتخَبة. يبدو أن المشاعر نفسها تُحرك النسخة "المعتدلة" من "طالبان" اليوم.عامل الوقت أكبر مشكلة
إذا أصرّت إدارة بايدن على تنفيذ خطتها المقترحة بسحب جميع القوات الأميركية بحلول سبتمبر المقبل، فقد تستولي "طالبان" على معظم المناطق الجنوبية والشرقية في أفغانستان خلال بضعة أشهر ثم تنهار الحكومة في المرحلة اللاحقة، أو ربما تنجح الحكومة وقوات العمليات الخاصة و"التحالف الشمالي" القديم (بين زعماء الطاجيك والهزارة والأوزبك) في حشد ما يكفي من الوحدة والقوة لمنع سقوط كابول. تنتشر شائعات أصلاً حول إقدام "التحالف الشمالي" على حشد قواته استعداداً للمعركة.ستتعلق المشكلة الأساسية حينها بعامل الوقت، فمن دون توصيات المستشارين الأميركيين، ستتدهور المعدات الأفغانية وتُستنزَف قدرات قوات العمليات الخاصة. على المستوى السياسي، ستجد الحكومة الراهنة، بقيادة الرئيس أشرف غني الذي ينتمي إلى جماعة البشتون الإثنية، صعوبة في تبرير أسلوب حُكمها فيما يأتي معظم المقاتلين من الشمال، حتى أن سكان الشمال باتوا مختلفين عما كانوا عليه على الأرجح، وفي آخر أربع سنوات، حققت "طالبان" انتصارات في الشمال ويُشكك هذا الوضع باستعداد الحلفاء الشماليين القدامى للقتال.في نهاية المطاف، لن يُحدد الأفغان والأميركيون وحدهم مسار الحرب، إذ تملك الصين والهند وإيران وروسيا مصالح في أفغانستان ولن ترغب هذه الدول في نشوء إمارة "طالبان" هناك. ترتبط إيران وروسيا بعلاقات قديمة مع جماعات الهزارة والطاجيك والأوزبك التي تعارض "طالبان"، ويتلاعب هذان البلدان بالطرفَين معاً منذ سنوات، فيسلّحان "طالبان" أو يموّلانها على الأقل كطريقة للضغط على الولايات المتحدة وطردها من المنطقة المجاورة، تزامناً مع رفض فكرة نشوء إمارة "طالبان" علناً، ستتغير المصالح بعد الانسحاب الأميركي طبعاً، وقد يصبح الصراع مشابهاً للحرب الأهلية في ليبيا أو سورية لأن القوى الإقليمية تدعم جهات مختلفة، وحتى لو كان هذا التدخل الإقليمي كافياً لمنع "طالبان" من استرجاع السلطة، لن تكون فرص الحكومة الديمقراطية برئاسة غني واعدة، فمن بين جميع اللاعبين الإقليميين، وحدها الهند تدعم الديمقراطية.حقيقة مؤلمة
هل يمكن أن تتغير التوقعات إذا قررت إدارة بايدن إبقاء القوات الأميركية في أفغانستان؟ قد يحصل ذلك فعلاً، لكنّ إطالة المهمّة الأميركية في أفغانستان لن تضمن إرساء السلام على الأرجح، فقد تمنع الولايات المتحدة سقوط كابول وتتابع مكافحة الإرهاب بما يخدم مصالحها الخاصة عبر نشر بين 2500 و3500 عنصر، لكن نظراً إلى توسّع نطاق نفوذ "طالبان" في الخريف الماضي، رغم وجود أعداد أكبر من القوات الأميركية في أفغانستان، قد تحرز هذه الجماعة تقدماً إضافياً هذه السنة حتى لو بقيت وحدة أميركية صغيرة لمكافحة الإرهاب. وفي ظل تصاعد التوقعات المرتبطة بتحقيق مكاسب أخرى، لن تتشجع "طالبان" على تقديم التنازلات في محادثات السلام.أمام هذه التطورات، تبرز حقيقة مؤلمة وواضحة: ستترك الولايات المتحدة وراءها حرباً لا تنذر باقتراب أي تسوية يتم التفاوض عليها، حتى أن التسوية كانت محتملة منذ سنة أكثر مما هي عليه اليوم، وفي ظل هذا الواقع المتبدّل، واحتدام المنافسة مع الصين، وتعدد المشاكل العالقة مثل التغير المناخي وانتشار وباء كورونا ومسائل داخلية مُلحّة أخرى، يبدو قرار بايدن بسحب جميع القوات الأميركية مقنعاً أكثر من أي وقت مضى.