في نوفمبر الماضي، شهدت قاعدة القوات البحرية الملكية الأسترالية بالقرب من مدينة «برث» دورية غير مألوفة شملت سفينتَين فرنسيتَين، فكانت الدورية الفرنسية قد تدرّبت مع القوات البحرية الأسترالية قبل الإبحار نحو بحر الصين الجنوبي حيث أصبحت جزءاً من الحملة الفرنسية الرامية إلى تحدّي مطالب الصين البحرية المفرطة في المنطقة، يشكّل هذا التحرك مثالاً آخر على طموحات فرنسا بالتحول إلى لاعبة مؤثرة في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ، ويثبت هذا الانتشار العسكري المطوّل أن التعاون الفرنسي الأسترالي بات أهم من أي وقت مضى.تتقاسم باريس وكانبيرا مجموعة من القيم المشتركة منذ وقت طويل وقد حاربتا معاً في مناسبات عدة، لكن ترسّخت الشراكة الفرنسية الأسترالية في السنوات الأخيرة لأن تقارب رؤيتهما الاستراتيجية تجاه منطقة المحيطَين الهندي والهادئ يفرض عليهما توسيع تعاونهما الدفاعي والدبلوماسي. يُعتبر تكثيف التعاون الفرنسي الأسترالي تطوراً ممتازاً بالنسبة إلى واشنطن، ويُفترض أن تقتنص هذه الأخيرة الفرصة الآن لتكثيف تعاونها مع البلدين.
سعت باريس وكانبيرا إلى التقارب استراتيجياً في مناسبات متعددة خلال السنوات الأخيرة، فقد نجح البلدان في تبنّي مفهوم مشترك حول منطقة المحيطَين الهندي والهادئ: وأقدمت أستراليا على هذه الخطوة بفضل «استراتيجية الأمن القومي» من عام 2013، وفرنسا بفضل «استراتيجية المحيطَين الهندي والهادئ» من عام 2018، ومن خلال دعم هذا البناء الاستراتيجي، اعترفت أستراليا وفرنسا بضرورة اعتماد رؤية شاملة حول هذه المنطقة، كذلك، يتقاسم البلدان مقاربة واضحة ومشتركة في المحيطَين الهندي والهادئ، فهما يسعيان إلى إرساء نظام مبني على القوانين لحماية سيادة المنطقة وتعزيز العمليات التجارية والحفاظ على السلام. تتّضح هذه الرؤية في الوثائق الاستراتيجية الفرنسية والأسترالية، بما في ذلك آخر التحديثات التي أصدرتها أستراليا في عام 2020 وفرنسا في عام 2021: يشعر البلدان بقلق شديد من احتدام المنافسة في أنحاء المنطقة وزيادة التحركات الصينية العدائية. نتيجةً لذلك، لا يمكن استبعاد المخاوف من اندلاع مواجهة عسكرية مفتوحة، لا سيما في ظل غياب أي هندسة أمنية جديرة بالثقة في المنطقة.
شريكتان قويتان في مجال الدفاع
الدفاع عامل أساسي من هذه الشراكة المتجددة، فقد سبق أن أقام البلدان تعاوناً دفاعياً وعقدا «اتفاقية وضع القوات» في عام 2009: إنها ركيزة قوية للنشاطات العسكرية الثنائية، ثم اتخذت باريس وكانبيرا خطوات إضافية في السنوات الأخيرة، فعقد البلدان اتفاقاً حول تقاسم المعلومات الاستخبارية في عام 2017، واتفاقاً آخر حول الدعم اللوجستي في عام 2018.سيكون تقاسم المعلومات السرية أساسياً لتقوية التعاون الدفاعي بين فرنسا وأستراليا، لا سيما برنامج الغواصات. يحتل الاتفاق المرتبط بالدعم اللوجستي الأهمية نفسها، فهو يسمح للقوات الأسترالية بالوصول إلى القواعد العسكرية الفرنسية في المحيط الهادئ والعكس صحيح.استناداً إلى إطار العمل هذا، شهد التعاون بين القوات المسلحة الفرنسية والأسترالية نمواً متسارعاً على مستوى العمليات المشتركة، حيث تتدرب القوات البحرية التابعة للبلدَين بانتظام تحسباً لسيناريوهات محتملة تتراوح بين عمليات الإنقاذ واندلاع صراعات محتدمة، ويُعتبر تدريب «الصليب الجنوبي» الذي تقوده فرنسا كل سنتين أكبر تدريب لتقديم المساعدات الإنسانية والإغاثة عند وقوع الكوارث في جنوب المحيط الهادئ، وقد شمل قوات بحرية من أستراليا ونيوزيلندا واليابان والولايات المتحدة. كذلك، كثّفت القوات البحرية الفرنسية والأسترالية تعاونها لإعاقة النشاطات البحرية غير القانونية في أنحاء المحيط الهادئ، بدءاً من عمليات القراصنة وصولاً إلى الصيد غير الشرعي، وعلى صعيد آخر، توسّع التعاون بين جيشَي البلدَين وقواتهما الجوية، ولو بطريقة ضمنية، وتنشر فرنسا قواتها اليوم في كاليدونيا الجديدة.اتّضح هذا التعاون الدفاعي الجديد بشكلٍ أساسي حين قررت كانبيرا في عام 2016 التوقيع على عقد بقيمة 35 مليار دولار مع مجموعة «نافال غروب» الفرنسية لتطوير 12 غواصة هجومية في أستراليا، فلا يُعتبر هذا العقد مجرّد مشروع تجاري بسيط لأن الغواصات تشكّل جزءاً محورياً من استراتيجية الدفاع الأسترالية، ومن المتوقع أن تساعد فرنسا أستراليا على إنشاء قطاع مستقل لصيانة الغواصات من خلال تسهيل نقل تقنيات عالية المستوى، فهذا المشروع سيربط بين البلدين لأكثر من خمسين سنة ويُفترض أن يخلق فرصاً جديدة للتعاون في مجالات الأسلحة والاتصالات والاستخبارات، وبحلول عام 2030، ستنشط 300 غواصة في أنحاء منطقة المحيطَين الهندي والهادئ، مما يساوي نصف غواصات العالم، وسيكون ربعها صينياً على الأرجح ويُستعمل بشكلٍ أساسي لخوض الحروب المضادة للسطوح ومنع الوصول إلى بحر الصين الجنوبي. لهذا السبب، يُعتبر تطوير الموارد العسكرية المتقدمة عاملاً أساسياً إذا أرادت القوات البحرية الأسترالية الحفاظ على وجود دائم في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ خلال المراحل المقبلة.لكن هذا المشروع يواجه مستوىً مرتفعاً من التدقيق العام في أستراليا نظراً إلى ضخامته وتعقيداته وكلفته، فتُشكك تقارير إعلامية متكررة بالتقديرات المرتبطة بالتكلفة وحصة العمل في البرنامج، وقد حوّلت المشروع تدريجاً إلى نقطة خلافية، لكن لا داعي للمبالغة في تقييم هذه الآراء، فهذا المستوى من التدقيق مبرّر نظراً إلى المسائل التي أصبحت على المحك في أستراليا، وقد استهدف أيضاً الجيل السابق من الغواصات الأسترالية، وقد قارن وزير الدفاع الفرنسي السابق، جان إيف لودريان، المشروع بـ»زواج مدته 50 سنة»: رغم التقلبات الحاصلة، يثبت هذا الرباط التزاماً جدّياً من باريس وكانبيرا.دور واشنطن
شاركت باريس وكانبيرا في إعادة التوازن إلى المنافسة القائمة بين الغرب وبكين عبر زيادة تعاونهما في مجال التسلح وتعزيز عمليات تقاسم المعلومات وتنظيم تدريبات بحرية مشتركة، وقد يؤدي تكثيف التعاون والتنسيق مع واشنطن إلى زيادة هذه المنافع. على المستوى العسكري، بدأت واشنطن تطبّق هذه المقاربة منذ فترة، فلطالما كان التعاون بين القوات البحرية الفرنسية والأسترالية والأميركية قوياً وقد اتّضح ذلك في مايو 2019، حين انطلق تدريب «لا بيروز» متعدد الجنسيات وشمل مجموعة من حاملات الطائرات الفرنسية «شارل ديغول» إلى جانب سفن حربية يابانية وأميركية وأسترالية، كذلك، كان التعاون بين فرنسا وأستراليا على مستوى التسلّح متداخلاً مع قطاع الدفاع الأميركي، وقد اتّضح ذلك عند انتقاء شركة «لوكهيد مارتن أستراليا» لتصنيع نظام قتالي للغواصات الأسترالية المستقبلية. يُفترض أن يحاول الشركاء الثلاثة الآن توسيع تعاونهما البحري عبر تخصيص محطات عبور في الموانئ وتنظيم التدريبات وتقاسم المعلومات أو حتى جمع خطط الطوارئ.على الصعيد الدبلوماسي، قد تتمكن فرنسا وأستراليا من التصدي للصين عند تنسيق خطواتهما مع واشنطن، فحتى الآن، فضّلت باريس وكانبيرا إبعاد نفسَيهما عن المنافسة الصينية الأميركية كونها تزيد الانقسامات وتزعزع استقرار المنطقة من وجهة نظرهما، وفي غضون ذلك ينشط البلدان في منتديات عدة، مثل «رابطة حافة المحيط الهندي» و»اجتماع وزراء دفاع جنوب المحيط الهادئ»، لتعزيز التعاون الإقليمي في مجموعة واسعة من المسائل، بدءاً من الأمن البحري وصولاً إلى التنمية المستدامة. كذلك، يعمل البلدان على إنشاء منتديات جديدة: في سبتمبر 2020، نظّم «محور باريس- نيودلهي- كانبيرا» أول حوار ثلاثي، ثم تلاه اجتماع آخر في شهر فبراير الماضي، فبرأي فرنسا وأستراليا، سيكون هذا النوع من التحالفات بين القوى المتوسطة طريقة مناسبة لتعديل ميزان القوى الإقليمي واستكمال الروابط الثنائية مع واشنطن، وفي الحالة المثلى، ستُمهّد هذه التحالفات لتبديد التوتر بين واشنطن وبكين وإقناع الصين بأن سلوكها العدائي غير مقبول بنظر الولايات المتحدة والمجتمع الدولي عموماً.يجب أن تقوي باريس وكانبيرا المنتديات التي تشمل واشنطن أيضاً، لكن من دون خسارة منافع هذه المقاربة طبعاً، إذ يقضي أحد الخيارات المطروحة باللجوء إلى «مجموعة تنسيق الدفاع الرباعي في المحيط الهادئ» أو «رباعي المحيط الهادئ» الذي يشمل فرنسا وأستراليا والولايات المتحدة ونيوزيلندا. إنها مجموعة مناسبة لتعزيز التعاون بطريقة عملية ومواجهة تحديات معينة مثل النشاطات البحرية غير القانونية، وجهود الإغاثة عند وقوع الكوارث، وتوسّع الوجود العسكري الصيني. يقضي خيار آخر باللجوء إلى صيغة «الرباعي الزائد» التي استُعمِلت في تدريب «لا بيروز» بقيادة فرنسا، علماً أن هذه العملية شملت اليابان والهند إلى جانب فرنسا وأستراليا والولايات المتحدة، وتضمّ هذه الصيغة العامة نطاقاً جغرافياً واسعاً يشمل المحيطَين الهندي والهادئ، كما أنها تنشئ تحالفاً دولياً أكبر حجماً لمجابهة تحركات الصين التي تُمعن في زعزعة استقرار المنطقة.تلوح فرصة جديدة في الأفق اليوم لأن المقاربات الأميركية والفرنسية والأسترالية تجاه منطقة المحيطَين الهندي والهادئ بدأت تتقارب تدريجاً، فمن جهة، تدعو إدارة بايدن إلى اتخاذ موقف أكثر توازناً من الصين، أي الجمع بين المنافسة والتعاون بطريقة تشبه الاستراتيجيات الفرنسية والأسترالية، ومن جهة أخرى، استعرضت الصين قوتها في زمن الوباء، فأجبرت باريس وكانبيرا على اتخاذ موقف أكثر صرامة تجاه بكين. في مطلق الأحوال، سيكون تسخير جميع قدرات هذا الاصطفاف الاستراتيجي المتجدد عاملاً أساسياً لإرساء نظام مستقر ومتعدد الأقطاب ومبني على قوانين واضحة في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ.