رصد علماء النفس نزعة بشرية شائعة تدفع الناس إلى نَسْب تصرفات الآخرين غير المرغوب فيها إلى صفاتهم الفطرية، مع أن الشخص الذي يحمل هذه القناعة ويتصرف بالطريقة نفسها يبرر تصرفاته باعتبارها ردة فعل ضرورية على الظروف القائمة.

على مستوى العلاقات الدولية، تتّضح هذه النزعة عند اتهام الأنظمة العدوة بالسعي إلى فرض سيطرتها، أو إطلاق تحركات عدائية، أو زعزعة الاستقرار، أو تنفيذ أي نشاطات سيئة، واعتبار هذا التوجه جزءاً راسخاً من النظام.

Ad

بشكل عام، تعكس هذه الفكرة تفسيراً خاطئاً لتصرفات الدولة، فهي تغفل عن التداعيات التي تتأثر بها السياسات الخارجية والأمنية في أي بلد بسبب قرارات الدول الأخرى والمخاطر التي يطرحها الخصوم المحليون أو القوى الكبرى، بما في ذلك التهديدات المشتقة من الولايات المتحدة.

تعكس معظم التعليقات الأميركية حول إيران مقاربة قصيرة النظر، حيث يتعلق جزء من المشكلة على الأرجح باستعمال مصطلحات مبتذلة بطريقة مألوفة وشائبة، وتطغى في هذا المجال عبارات شائعة مثل «سلوكيات مشينة ومثيرة للاضطرابات» و»نزعة إلى فرض الهيمنة الإقليمية»، لكنّ الاتكال على هذا النوع من الكلمات يمنع المسؤولين من تحليل تصرفات إيران خارج حدودها بدقة، إذ يبدو أن طهران تردّ في معظم الأوقات على خطوات الدول الأخرى في المنطقة، كذلك، تمنع هذه الأفكار تحليل الأسباب التي تدفع إيران أحياناً إلى القيام بتحركات معينة تتعارض مع مصالحها الوطنية الخاصة أو اعتبار السيطرة على منطقة عربية وسُنيّة في معظمها جزءاً من الأهداف الإيرانية الممكنة مع أن الواقع مختلف.

تنتشر نزعة مشابهة في التعليقات المرتبطة بنشاطات إيران النووية، حتى أن أشهر الصحف تتكلم عن الأمر الواقع عند تحليل برنامج إيران النووي مع أنها مقاربة خاطئة.

خطة لاكتساب سلاح نووي

بعيداً عن الأفكار الشائعة، لا يقتصر الإخفاق المرتبط بحتمية تطوير برنامج نووي إيراني على المصطلحات المستعملة في هذا المجال، ففي مقالة بقلم غابرييل نورونها مثلاً، يفترض هذا الصحافي أن إيران مُصمِّمة على اكتساب سلاح نووي، لكنه لا يقف عند هذا الحد، بل يفترض أن طهران وضعت خطة مدروسة تمتد على عقود عدة لتحقيق هذا الهدف، تشكّل خطة العمل الشاملة المشتركة التي كبحت نشاطات إيران النووية وحصرتها بكل وضوح جزءاً من تلك المقاربة برأي نورونها لأنها ستُحسّن وضع إيران الاقتصادي، وتسمح لها بتصنيع قنبلة، وتُسهّل عليها إطلاق مسار شرعي على الساحة الدولية تمهيداً لاكتساب سلاح نووي.

لا يقدّم نورونها أي أدلة على وجود خطة مماثلة (لا بيانات أو وثائق مسرّبة أو أي مواد أخرى)، بل إن موقفه هو مجرّد افتراض.

لكن تتعارض الفكرة المتعلقة بالوجهة الإيرانية في هذه النظرية مع تاريخ الانتشار النووي وارتباطه بمجموعة محددة من الحسابات وردود الأفعال بدل الحتمية الفطرية. يرتكز ذلك التاريخ بشكلٍ أساسي على قرارات تهدف إلى كبح تهديدات معينة أو الرد عليها، بدءاً من «مشروع مانهاتن» الأميركي الذي نشأ في الأصل رداً على المخاوف من أن تُطوّر ألمانيا النازية أسلحة نووية، ثم بدأت جهود مدروسة مشابهة لبناء نظام ردع ضد التهديدات: بريطانيا وفرنسا ضد السوفيات، وإسرائيل ضد العرب، والهند وباكستان ضد بعضهما، وكوريا الشمالية ضد بقية دول العالم.

تحمل حسابات التكاليف نسبةً إلى الأرباح في دول مثل إيران (أي البلدان التي لا تدخل في خانة القوى العظمى) الأهمية نفسها على الأقل عند مقارنتها مع الدول التي تستطيع تطوير أسلحة نووية لكنها تقرر الامتناع عن هذه الخطوة، مثل الأرجنتين والسويد وكوريا الجنوبية. من الضروري أيضاً تقييم حسابات القوى المتوسطة الأخرى التي تملك أسلحة نووية لكنها قررت التخلي عنها، وعلى رأسها أوكرانيا وجنوب إفريقيا.

مبادرات دبلوماسية

الأهم من ذلك هو أن الخطة الشاملة التي تكلم عنها نورونها تتعارض بقوة مع تصرفات إيران، فمن المعروف أن طهران كانت تهتم بتصنيع أسلحة نووية نظراً إلى استمرار عمليات تصميم بعض الأسلحة منذ عشرين سنة تقريباً، لكن بين العامَين 2000 و2009، توقفت تلك الجهود وأطلقت إيران مبادرات دبلوماسية تجاه الولايات المتحدة لحصر نشاطاتها النووية مقابل تخفيف العقوبات المفروضة عليها. لا يمكن تفسير هذا التطور والتحركات الإيرانية اللاحقة إلا بطريقة واحدة: أدرك القادة الإيرانيون أن تحويل بلدهم إلى دولة غير نووية ومتكاملة مع المجتمع الدولي وقوة اقتصادية عالمية يبقى خياراً أفضل من التحوّل إلى دولة مسلّحة نووياً لكن منبوذة وخاضعة لعقوبات كبرى.

بموجب خطة العمل الشاملة المشتركة التي أصبحت سارية المفعول في عام 2015 بعد عقد مفاوضات شاقة، تخلّت إيران عن 97% من اليورانيوم منخفض التخصيب وجميع كميات اليورانيوم عالي التخصيب، وأوقفت عمليات التخصيب المتلاحقة، وفككت مفاعلاً نووياً، واتخذت خطوات أخرى مطلوبة منها لتغيير مدة «الاختراق النووي» المتوقّع إذا قررت تصنيع قنبلة من شهرَين إلى سنة تقريباً. كذلك، وافقت إيران على إجراء عمليات تفتيش دائمة وشاملة والخضوع للمراقبة كي يتأكد المجتمع الدولي من سلمية برنامجها النووي.

إذا كانت الخطوات كلها جزءاً من خطتها الرامية إلى تصنيع أسلحة نووية على المدى الطويل، فلا شك أنها مقاربة جنونية، لكنّ القادة الإيرانيين ليسوا مجانين بأي شكل.

في ما يخص المفهوم القائل إن إيران «قد تُطوّر أسلحة نووية بعد إعادة إحياء اقتصادها» نتيجة تخفيف العقوبات المفروضة عليها بموجب خطة العمل الشاملة المشتركة كما ذكر نورونها، تتجاهل هذه الفكرة نزعة الدول التي تقرر تطوير أسلحة نووية إلى تقييم حجم مشاكلها الأمنية بدل احتساب كمية الأموال في حساباتها المصرفية.

قال رئيس الوزراء الباكستاني السابق، ذو الفقار علي بوتو، يوماً إن الباكستانيين «سيأكلون العشب» عند الحاجة مقابل تصنيع أسلحة نووية، واستنتج الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن نظام كوريا الشمالية قد يُجبِر شعبه على القيام بالمثل قبل التخلي عن أسلحته النووية، وهو محق على الأرجح. تنطبق الأولويات نفسها على النظام الإيراني الذي أثبت خلال الحرب الإيرانية العراقية الممتدة على ثماني سنوات استعداده لتحمّل مظاهر الحرمان في وجه التهديدات الأمنية الكبرى إذا قرر تصنيع أسلحة نووية.

الملف النووي على مفترق طرق

حتى الآن، لم تتغير حسابات إيران مقارنةً بما كانت عليه منذ عشرين سنة تقريباً على مستوى تقييم خيار التحول إلى دولة نووية منبوذة وخاضعة للعقوبات أو تجنب هذا المصير. اتّضح هذا الوضع حين أصرّت طهران على التزام جميع أطراف خطة العمل الشاملة المشتركة ببنود الاتفاق مجدداً، ويعني هذا الموقف طبعاً أن تضطر إيران لكبح التقدم النووي الذي أحرزته بعد انسحاب إدارة ترامب من الاتفاق.

أصبح الملف النووي الإيراني على مفترق طرق، إذ من المنتظر أن تُستبدَل المواقف الكلامية بمحادثات جدية بين الأطراف المعنية أخيراً، حيث ستتوقف وجهة إيران في المرحلة المقبلة على استعداد الولايات المتحدة للالتزام بجميع بنود خطة العمل الشاملة المشتركة والقرار 2231 الصادر عن مجلس الأمن، فإذا امتنعت الولايات المتحدة عن هذه الخطوة واستنتجت إيران نتيجةً لذلك أنها ستصبح دولة منبوذة ومُعاقبة بغض النظر عما تفعله في نشاطاتها النووية، يسهل أن تتشجع طهران في هذه الحالة على إعادة النظر بحساباتها السابقة وتفكر بضرورة أن تكتسب أسلحة نووية في نهاية المطاف.

بول ر. بيلار – ناشونال إنترست