التخلي عن أفغانستان خطأ تاريخي
لا تتمحور السياسة الخارجية حول مصالح الآخرين، بل تهدف بشكلٍ أساسي إلى تحقيق المصالح الذاتية، لكن ما الذي استفادته الولايات المتحدة من البقاء في أفغانستان بعد سقوط حركة "طالبان"؟ لم تكن واشنطن تهدف إلى قتل أسامة بن لادن الذي كان بكل بساطة واحداً من مجموعة متلاحقة من المخططين الإرهابيين، بل أرادت أن تثبت أن بن لادن كان مخطئاً بشأن الالتزامات الأميركية في الخارج على المدى الطويل.في أغسطس 1996، أصدر بن لادن الفتوى الشهيرة التي أعلن فيها الحرب ضد الولايات المتحدة وكان يتمنى أن تكون تلك الحرب طويلة ودموية، فكتب بن لادن حينها أن الأميركيين يتراجعون ويهربون في جميع صراعاتهم المتلاحقة وأن هذا النهج يثبت بكل وضوح ضعفهم وعجزهم.كانت اعتداءات 11 سبتمبر نتيجة مباشرة لذلك الخطاب، وسرعان ما تبيّن أن باراك أوباما كان محقاً حين اعتبر أفغانستان "حرباً يجب أن يربحها الأميركيون" خلال حملته الانتخابية الأولى، وما كانت الخسارة لتثبت ضعف الأميركيين وعجزهم فحسب، بل كانت لتبرر استراتيجية الجهاد أيضاً. إلى أي حد ستصبح الولايات المتحدة آمنة حين تنجح تلك الاستراتيجية في كابول وإسلام أباد معاً؟
ففي شهر يناير وحده، قُتِل 239 عنصراً أفغانياً من قوى الأمن الموالية للحكومة و77 مدنياً على يد حركة "طالبان"، وفي المقابل خسرت الولايات المتحدة أقل من 20 عنصراً عسكرياً في السنة خلال اشتباكاتها العدائية في أفغانستان منذ 2015. إنها أحداث مأساوية بالنسبة إلى المتضررين مباشرةً لكنها حصيلة صغيرة مقارنةً بعدد الجنود الذين يسقطون خلال حوادث التدريب الروتينية حول العالم، فقد كان الدور الأميركي الأساسي في السنوات الأخيرة يقضي بمنح الجيش الأفغاني قوة جوية فاعلة، وهذا الثمن ليس باهظاً مقابل منع "طالبان" من تحقيق انتصار مباشر.في ما يخص روسيا والصين، هل ستستفيد أوكرانيا، التي تواجه الآن وضعاً شائكاً بعد حشد 150 ألف عنصر عسكري روسي على حدودها، من الانسحاب الوشيك من أفغانستان؟ وماذا عن تايوان التي تواجه أعمالاً عدائية متزايدة من الجانب الصيني؟ لا ترتكز نظرية الردع على ميزان القوى بكل بساطة، بل تتأثر أيضاً بمستوى المصداقية لدى الأطراف المعنية، فلن يُحقق الانسحاب من أفغانستان الآن أي تقدّم لتغيير ميزان القوى، لكنه قد يُمعن في استنزاف المصداقية الأميركية. سيُرسّخ الأميركيون بهذه الطريقة مقاربتهم القائمة منذ 50 سنة، من فيتنام إلى الصومال والعراق، فيثبتون مجدداً أنهم يطرحون خطورة على الأصدقاء بقدر الأعداء. وفق إحدى النظريات الشائعة، يُفترض ألا يكون تحمّل الأفغان مسؤولية الدفاع عن أنفسهم بعد عشرين سنة من التضحيات الأميركية طلباً غير منطقي، لكن السياسة الخارجية تتمحور أيضاً حول التعامل مع العالم بظروفه القائمة، لا بالشكل الذي يتمناه البعض، ففي أي عالم مثالي، ما كان القادة الأفغان ليفتقروا إلى الكفاءة، وما كانت النساء الأفغانيات ليتعرّضن لخطر دائم، وما كانت حركة "طالبان" لتقطع علاقاتها مع الإرهابيين الدوليين، وما كانت التحركات الأميركية في زاوية معينة من العالم لتؤثر على نظرة الناس إليها في أماكن أخرى.هذه الظروف التي يتمناها الكثيرون ليست موجودة في العالم الواقعي، لذا يجب أن يجد الأميركيون الطريقة المناسبة لتحقيق مصالحهم من دون خيانة قيمهم وأصدقائهم، لكنّ القرار الأميركي الكارثي حول أفغانستان في الأسبوع الماضي يفشل في هذا الاختبار على جميع المستويات.