لم تعد جديدة القصة التي دارت أحداثها أثناء الحرب العالمية الثانية في بريطانيا، حيث صدر أمر قضائي بنقل مطار حربي لما تسببه الطائرات من إزعاج للأهالي وتعريض حياتهم للخطر من احتمال استهداف منشآت المطار من قبل الأعداء، وصل الأمر الى رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ونستون تشرشل من القادة العسكريين الذين طلبوا منه التدخل والتوجيه بعدم تنفيذ الأمر القضائي للضرورات العسكرية ونظراً لما ستشكله عملية نقل المطار من عرقلة وانشغال للقوى الجوية، فما كان من الرئيس إلا أن أمر بالتنفيذ الفوري مردداً مقولته الشهيرة: "أهون أن نخسر الحرب من أن يخسر القضاء البريطاني هيبته".

فالقضاء المستقل، السلطة الثالثة التي تتولى الفصل في المنازعات المعروضة أمامها والمسؤولة عن تحقيق العدالة والمحافظة على مصداقية القوانين التي تطبقها، هو باختصار الصورة الأولى والأوضح عن هيبة الدولة ومصداقية الحكم وحضارة الشعوب.

Ad

فبقدر ما يكون القضاء مستقلاً وبقدر ما يكون مهاباً، بقدر ما يقترب المجتمع الذي يحكم فيه والدولة التي ترعاه من مبادئ الحضارة وثوابت التحضر، وبالمقابل كلما انغمس القضاء في ظلمات المصالح والأهواء، وكلما خنع القضاة لمقتضيات الترهيب وكلما خضع ضميرهم لمغريات الترغيب، اقتربت المجتمعات من قيم ومبادئ الجاهلية وسادت فيها شريعة الغاب.

ما يحصل في لبنان هذه الفترة هو تدمير ممنهج للمؤسسة القضائية التي يعلّق عليها ما تبقى من شعب أملاً في الإصلاح والتغيير بالواقع لا الشعارات، وما سمّي إعلامياً قضية "عون-مكتّف" يتخطى مسألة مخالفة قاض للأصول القانونية أو التنازع القانوني في مسألة توزيع الصلاحيات بين المدعي العام التمييزي وما يتبعه رئاسياً من القضاة الذين يشغلون رأس النيابات العامة الاستئنافية.

كل ما يحدث في هذا القضية بصورة علنية هو صورة بشعة- ولكن واضحة- عمّا يحدث في كواليس السلطة القضائية في لبنان، وإلا كيف نفسر اعتراف الجميع بوجود سرقات مليارية من المال العام دون أن تنجح المحاكم في سجن فاسد واحد؟! وكيف نفسر كل "الخطوط الحمراء" المذهبية والسياسية والحزبية التي توضع بوجه المساعي لمعاقبة قاتل أو مهرب أو فاسد أو مجرم يحتمي بغطاء سياسي أو بدرع مرجعية دينية!؟ وكيف يمكن أن نفهم ونتفهم التدخل السياسي السافر في عمل القضاء من لحظة نجاح المتقدمين لمباراة الدخول الى معهد القضاء الى توقيع التشكيلات القضائية مروراً بكل موبقات التأثير في عمل المحاكم مذهبياً ومصلحياً وفساداً؟!

لا شك أن مقاضاة أي مؤسسة مصرفية أو مالية متورطة بإفقار اللبنانيين أو بمخالفة القانون هو إجراء مأمول ومنتظر ومطلوب من قبل كل الذين خسروا أموالهم من جراء فساد رجال السياسة أو جشع رجال المال، ولا تخرج شركة "مكتّف" للصيرفة عن هذا السقف القانوني والقضائي، فإذا ما ثبت تورطها بأي مخالفة فيجب معاقبتها وإذا ما ثبتت براءتها مما قد ينسب إليها رُد اعتبارها وأعيد تبييض صفحتها.

ولكن العراضة الإعلامية والشعبية التي رافقت مداهمة القاضي "غادة عون" لمكاتب شركة "مكتّف"، وحتى لو سلمت النوايا وجمّلت الأهداف، هو خروج واضح عن الأصول القانونية والأعراف القضائية، فلا يمكن لأحد أن يبرر مخالفة القانون بحجة مكافحة الفساد، وإلا بررت كل أعمال الثّأر عند تقاعس الدولة أو القضاء عن توقيف المتهم بالقتل مثلاً، كما لا يمكن لأحد أن يبرر مخالفة المرؤوس لقرارات السلطة الرئاسية، وخصوصا في السلك القضائي، وإلا سمح لكل موظف عدم الامتثال لأوامر رئيسه الإداري إذا ما خالفه في التوجه السياسي أو العائلي أو حتى القانوني مثلاً!

من جانب آخر، فإن كل ما رافق الموضوع من سجال بين مجلس القضاء الأعلى والمدعي العام التمييزي من جهة، والقاضي "عون" من جهة أخرى، وما تناقلته وسائل الإعلام من بيانات دعم ومناوشات سياسية وتغطيات حزبية لهذا القاضي أو ذاك، ما هو إلا إعلان واضح عن سقوط هيبة القضاء، وما هو إلا انزلاق لبنان نحو الهاوية الحضارية.

المسألة من ألفها الى يائها، هي سقوط القضاء في مستنقع السياسة، فحتى لو صدقنا أن القضاء من أعلى هرمه الى أسفل قواعده لا تحركه التوجيهات السياسية ولا تزعزع صلابته الأهواء المذهبية، من الصعب أن نكذب ما نسمعه ونشهده يومياً من ربط هذا التصرف الفردي أو ذاك القرار القضائي بتوجه سياسي معين، وهذا لعمري إعلان واضح عن "القضاء على القضاء".

لبنان الذي يمر بأسوأ أزماته التاريخية لا يحتاج الى قضاء مسيس، كما لا يحتاج لشعارات تمتدح شعر "غادة" هيفاء من هنا أو تدين قاض من هناك! كما أنه لا يحتاج الى شعب يتناسى كل آلامه ويتغاضى عن كل سارقيه وتشتعل حماسته فقط لنصرة بني مذهبه حتى لو كان فاسداً أو على خطأ!

إن انهيار الكيان اللبناني لم يعد وهماً أو توقعاً أو احتمالاً، فإذا ما خسر الشعب اللبناني قضاءه ومن ثم جيشه فقد خسر آخر مقومات بقاء دولته، فليع الشعب قبل السياسيين خطورة "مذهبة" القضاء، فهذا الوطن المتألم بأمس الحاجة "لانتفاضة قضائية" يقودها قضاة تحركهم ضمائرهم لا حماستهم، يتشددون أكثر من غيرهم في احترام وتطبيق القانون، ويحققون عدلاً توصد أبوابه بوجه أي محاولة سياسية أو مصلحية من شأنها أن تخدش عفته.

لبنان لا يحتاج الى قضاء "مكتّف" ولا قضاء مسيّس بل يحتاج الى قضاء حر ومستقل: سلطته هيبة، مساره نزاهة، وإنجازه عدل.

عودا على بدء، فقد رحل "تشرشل" وسقطت الطائرات وانتهت الحروب، وبقي القضاء البريطاني صرحاً يعكس حضارة أمة ما زالت بخير طالما قيمها بخير وهيبة قضائها بخير.

د. بلال عقل الصنديد