تفاصيل تلك الجريمة تعيد للأذهان قصة الفيلم الكوميدي الشهير "وحدي في المنزل"، لكن بنسخة مأساوية جرت وقائعها في أكتوبر الماضي بقرية كفر الفقهاء، التابعة لمدينة طوخ بمحافظة القليوبية المصرية، حيث تلقت الشرطة بلاغا من والد الضحية، باكتشافه وفاة نجله "أنس" البالغ 4 أشهر داخل شقته، وعدم تواجد زوجته، وتعلل بوجود خلافات دائمة معها، مما يجعله يضطر للمبيت في محل عمله لعدة أيام متواصلة لتجنب المشاحنات، وعند عودته لمنزله فوجئ بأن طفله فارق الحياة، واتهم زوجته بالإهمال لتركها نجلهما وحده دون أي رعاية لأيام، ما تسبب في وفاته.باتت القضية محيرة، وتثير في الأذهان تساؤلات كثيرة، وتحرِّك المشاعر نحو معاناة هذا الطفل الرضيع على مدى 9 أيام، وتستبقي ألما بالغا لدى أصحاب النفوس الرحيمة، وتخيُّل المعاناة التي مر بها، وكيف انتُزِعت الرحمة من قلب أمه وأبيه، وتركاه وحيدا دون أدنى شعور بالقلق أو الخوف من حدوث مكروهٍ له، وبدلا من أن يعصف بهما الندم والحسرة بعد فقده، أخذ كلاهما يلقي التهمة على الآخر، ويتنصل من مسؤوليته عن الحادث الأليم.
واتجهت أصابع الاتهام إلى الزوجين الغافلين عن معنى رباط الزوجية، وتوفير السعادة والاستقرار داخل المنزل، وكلاهما يحاول التسلط على الآخر، واعتقدت الزوجة أن الطريقة الوحيدة لامتلاك زوجها أن تغرقه في دوامة لا تنتهي من الشجار والخلافات، وسلبه راتبه الشهري، بدعوى أنها الأجدر على تدبير شؤون المنزل، حتى رضخ لطلبها، لكنها تمادت في لومه على تقصيره، وأمرته أن يبيت في مقر عمله بالقاهرة لعدة أيام، حتى يوفر نفقات السفر اليومي، وحين أذعن لطلبها، أدركت أنه لن يرفض لها طلبا بعد الآن. وفشل الزوج في ترويض زوجته، وإقناعها بتوفير الاستقرار داخل المنزل، والاهتمام برعاية طفليه (مروان وأنس)، واضطر لتنفيذ مطالبها حتى لا تتمادى في عنادها، ووجد أن فكرة مبيته في مقر عمله بمنزلة هدنة مؤقتة من المشاحنات اليومية، وتهديدها المستمر بطلب الطلاق، وتدخل الأهل للصلح بينهما، وبلغ العناد ذروته بفقدهما طفلهما الرضيع، وكلاهما لا يتخيل أن الآخر يمكنه التخلي عن فلذة كبده، ويتركه وحيدا دون رعاية، حتى يتضور جوعاً، ويلقى حتفه، ولكنهما اتفقا للمرة الأولى في القسوة والجحود.وصارت قضية موت "رضيع طوخ" في دائرة اهتمام الشارع المصري، وهزت بشاعتها مشاعر الكثيرين من متابعي تفاصيلها عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، وتوالت ردود فعل غاضبة، ومطالبات بتوقيع أقصى العقوبة على الزوجين المتهمين، حتى يكونا عبرة لأي أب أو أم يعرضان حياة أطفالهما للخطر، حتى لو كان ذلك نتيجة الإهمال غير المتعمد.في ذلك الوقت، تكثفت تحريات الشرطة حول الحادث، وتبين أن الزوج عامل في "محمصة لبيع التسالي" بالقاهرة، وأنه دائم الخلافات مع زوجته، وقبل وقوع الجريمة بأيام غادر الزوج المنزل في طريقه إلى عمله، بعد تأخر الزوجة في العودة إلى البيت، وعدم ردها على اتصاله من الهاتف المحمول، وترك طفله داخل الشقة وحيدا، ولم يغلق باب الشقة لاعتقاده أن الزوجة ستعود إلى المنزل بعد شراء متطلبات البيت، وبعد 9 أيام عاد من العمل واكتشف انبعاث رائحة كريهة في أرجاء الشقة، ووفاة طفله الرضيع.وانتقلت الشرطة إلى موقع الحادث، وتبين عدم صحة ما جاء في أقوال المبلغ، وأنه حدث خلاف بين العامل وزوجته، قامت على اثره الزوجة بالخروج من المنزل وبرفقتها نجلها الطفل الأكبر "مروان"، بحجة إحضار بعض المشتريات، إلا أنها توجهت إلى منزل أهلها دون علمه، ولم تعد إلى المنزل مرة أخرى.
تساؤلات حائرة
وتتابعت أصداء الجريمة التي راح ضحيتها هذا الطفل البريء، ودارت في الأذهان تساؤلات حائرة حول موقف الزوجين، ومحاولتهما التنصل من مسؤولية وفاة ابنهما، دون شعور بالندم، والاعتراف بالإهمال الجسيم، وانشغالهما بتفاصيل خلافاتهما، وغيابهما عن المنزل دون أدنى تفكير في حالة طفل لا يعي ما يدور حوله، وتركاه يتضور جوعا على فراشه، ودفع حياته ثمنا لقسوة والديه، بينما تشير أصابع الاتهام إلى أنهما تجردا من الرحمة، ويستحقان القصاص العادل.بدت خيوط تلك الجريمة البشعة تائهة بين الإهمال والتفكك الأسري، ولم يكشفها سوى انبعاث الروائح الكريهة من داخل المنزل، بعد أن تحلل جسد الطفل الرضيع إثر وفاته جوعا، وعند مواجهة والدته بما جاء بالفحص، بررت عدم الاطمئنان على نجلها طوال تلك الفترة، ظنا منها أنه موجود برفقة والده، وأقر الأخير بما أسفرت عنه التحريات، وجرى تحرير محضر بالواقعة وتولت النيابة التحقيق، وقررت حبس المتهمين 4 أيام على ذمة التحقيقات، بعد أن تسببا في مقتل ابنهما "أنس" البالغ 4 أشهر، بعد أن تركاه في منزل الزوجية وحيدا.اعترافات مثيرة
بدأت تفاصيل المأساة، عندما بحث الشاب الريفي عن عروس، وتزوج من فتاة تعيش قي قرية مجاورة، وأنجبا ابنهما الأول "مروان" والثاني "أنس"، واضطربت حياتهما تماماً، وكثرت المشاحنات بينهما، من دون رغبة في الوصول إلى حل لنزاعاتهما اليومية، وبلغ العناد بين الزوجين ذروته، حتى أفضى إلى وفاة الطفل الرضيع.وأدلت الأم باعترافات تفصيلية حول واقعة ترك ابنها الرضيع حتى مات جوعاً، إذ قالت إن زوجها يسيء معاملتها، ويتهمها بإهمال شؤون المنزل، وعدم رعاية الطفلين، وبعد تكرار المشاحنات بينهما، قررت أن تترك له الطفل الرضيع ليتولى مسؤوليته، وتلقنه درساً قاسياً، حتى يشعر بأهميتها، ويتوقف عن الإساءة إليها، لكنها لم تدرك أن غيابها عن المنزل سيتسبب في وفاة طفلها الصغير، لاسيما أنه لا يحتاج إلى رضاعة طبيعية.وبررت الأم تركها طفلها الرضيع بأن الأمر كان خارجاً عن إرادتها، وخشيت الاطمئنان عليه من رد فعل زوجها وعائلته، ولم تتوقع أنه سيتركه وحيدا دون سؤال أو تركه لأحد من أجل رعايته، ويخرج للعمل دون أن يخبرها أو يدبر وسيلة لإعاشة الطفل حتى فوجئت بالخبر الأليم، واتهام زوجها لها بأنها وراء وفاة طفلهما.ودارت اعترافات الأب حول وجود خلافات مستمرة مع زوجته، وأنها اعتادت الشجار معه، وكانت دائماً تحاول فرض سيطرتها عليه، ما اضطره إلى ترك المنزل، والمبيت في محل عمله لعدة أيام متواصلة، وفي المرة الأخيرة عاد إلى مسكنه واكتشف وفاة نجله، واتهم الزوجة بالإهمال، وترك نجلهما من دون رعاية، والتسبب في وفاته.وقال الأب المتهم مع زوجته بقتل رضيعهما بتجويعه إن زوجته أبلغته قبل أن تغادر المنزل أنها ستشتري بعض المتعلقات وستعود خلال 10 دقائق، وإنه لم يعلم بأنها لن تعود، وقام بارتداء ملابسه لحين عودة الزوجة لكي ينطلق إلى عمله، وعندما تأخرت اتصل بها من هاتفه المحمول، لكنها لم ترد، واعتقد بعدم ردها أنها اقتربت من العودة.وأكمل الأب أنه غادر البيت متوجهاً إلى عمله، ظناً منه أن زوجته قد عادت إلى المنزل، وأنه حاول الاتصال بها أكثر من مرة لكنها لم ترد، وأنه لم يقلق من عدم ردها، ولم يتوقع أن تتجرد زوجته من مشاعر الأمومة وتترك رضيعها وهو لا يزال صغيراً ولم يكمل شهره الرابع حتى إن كانت تعتقد أنه مع أبيه، وحين عاد بعد تسعة أيام من عمله في القاهرة، وبمجرد أن فتح باب الشقة اشتم رائحة كريهة وبحث عن زوجته فلم يجدها، ونظر إلى سرير الطفل فوجده متعفناً، وأصيب بصدمة، وظل يبكي، وحرر بلاغا في قسم الشرطة اتهم فيه زوجته بالإهمال، والتسبب في وفاة طفلهما.في حين كشفت تحقيقات النيابة أن والدي الطفل المتوفى من الجوع تزوجا منذ نحو 4 سنوات، وأن خلافاتهما كانت بسبب مصروف المنزل وبسبب طلب الزوجة الدائم للأموال، وسبق أن دبت بينهما الخلافات التي كادت تصل إلى حد الطلاق، ولولا تدخل الأهالي والأسرتين بينهما لجرى الانفصال بينهما في العام الأول من زواجهما.وجاء في أقوال طه، الشقيق الأكبر لوالد الرضيع المتوفى، تفاصيل الحياة الزوجية لشقيقه عاطف، وبدايتها قبل أربع سنوات من وقوع هذا الحادث الأليم، وأنه وأشقاءه الثلاثة بمن فيهم شقيقه والد الرضيع المتوفى، كانوا يدا واحدة في كل شيء في عملهم ومنزلهم، لكن سرعان ما تغيّرت الحال بعد أن وطأت زوجة أخيه الأصغر منزل العائلة.وكشف طه تفاصيل الخلاف الأخير بين شقيقه وزوجته، وأنها أجبرته على المكوث بمقر عمله (محمصة تسالي) طوال أسبوع ليوفر مصروفات السفر يومياً إلى القاهرة، ويعطيها لها، وكانت تحصل على راتبه كاملاً فور عودته وتتحكم في مصروفات منزلها وكانت لا تشتري به شيئاً وعندما يسألها شقيقه تقول إنها أنفقته.وفي يوم الواقعة تجددت الخلافات بينهما، لأنها رفضت أن تعطيه 50 جنيها ليذهب بها إلى عمله، وصاحت في وجهه، وتركت المنزل قبل خروجه بدقائق مدعية أنها ستذهب لشراء احتياجات المنزل، فترك باب الشقة مفتوحا ظنا منه أنها ستعود لكنها خرجت ولم تعد، وتركا الطفل وحيدا بالمنزل لمدة تخطت الأسبوع دون طعام ليلقى حتفه جوعا.وأكد جيران الأب والأم في أقوالهم أمام النيابة أن والد الطفل عاد من عمله في أحد المحلات بالقاهرة ليفاجأ بوفاة نجله على السرير فأبلغ أجهزة الأمن، وأضافوا أن الأم سبق أن تركت طفلها قبل ذلك في الشارع وذهبت لأهلها، إضافة إلى واقعة أخرى عندما تركت طفليها من قبل في الشقة بمفردهما، إلا أن الطفل الأكبر مروان أخبر الجيران أنهما بمفردهما وأنقذوهما.الاتهامات الأربعة
وتوالت تفاصيل القضية، وأمر قاضي المعارضات بمحكمة طوخ الجزئية بتجديد حبس والدي رضيع طوخ 15 يوماً على ذمة التحقيقات في الواقعة، ووجهت النيابة لوالدي الطفل الرضيع الذي توفي نتيجة الجوع الشديد، أربعة اتهامات، الأول القتل العمد دون سبق الإصرار والترصد، والثاني التسبب خطأ في موت شخص نتيجة إهمال ورعونة وعدم احترام، والثالث تعريض طفل للخطر، والرابع تعريض طفل للخطر لم يبلغ 7 سنوات بتركه في مكان خالٍ من الآدميين.كما أمرت النيابة بعرض الأم على الطب الشرعي لبيان ما إذا كانت تطعم طفلها طبيعيا، وآخر مرة تم إطعامه، أو صناعيا، كما ادعت أنها تطعمه لبنا صناعيا، وتسليم الطفل الأكبر مروان إلى جدته لأمه بعد قرار النيابة بتجديد حبس الزوجين المتهمين.واتخذت قضية وفاة "رضيع طوخ" مسارا جديدا، وحظيت باهتمام المجلس القومي للطفولة والأمومة، واتخاذه الإجراءات القانونية لحصول الوالدين المتهمين على عقاب رادع جزاء لما اقترفاه، والحصول على تعهد من جدة الرضيع المتوفى حتى يتم إيداع حفيدها الآخر مروان بحضانتها وتحت رعايتها، بدلا من إيداعه دار رعاية، حفاظا على الطفل الذي صار وحيدا بعد فقد شقيقه، وانتظار توقيع أقصى العقوبة على الزوجين المتهمين بالإهمال والقتل غير المتعمد.