حل محمد الماغوط ضيفاً على كل من يحب الشعر والأدب الصادق، وكان الجميع يقرأ عن هذا الشاعر ولا يعرفه. لقد أعطى الكثير حتى في عزلته، التي تحدث عن محطات فيها أخوه عيسى في كتاب «محمد الماغوط- رسائل الخوف والجوع»، وهو يقول في حوار دار بينه وبين محمد: «هل قرأت قصيدتي الأخيرة يا عيسى؛ جفاف النهر؟ لقد قُرئِت بصوت عالٍ في المقاهي وقالوا عنها رائعة. كلمة واحدة والطبول الكبيرة تقرع لما يجهضه الأقزام والمشوّهون».كما يتذكر عيسى كيف كان الشاعر في أيام مرضه قبل وفاته بفترة وجيزة: «عندما يصحو بعد قليل يطالب بأدويته وهي أمامه على طاولة سوداء فسيحة، عليها كل الأدوية التي يحتاج إليها، منها أدوية للضغط وأخرى للقلب، ومنها مسكنة، ومنها مساحيق يذوّبها ويشربها، ومنها مهدئة، ومنها للحلق ومنها للقصبات، ومنها للكبد ومنها منومة. وأمام يده علبة التبغ، وبجانبها صحن الرماد الكبير، وصحن الفاكهة الذي لا يفرغ».
وعندما كان عيسى يلفت نظره إلى ضرورة وضع رماد السجائر وأعقابها في منفضة، يقول له إن إلياس مسوح كان يترك الرماد يتساقط على ثيابه، وبعد ذلك يقف فيتساقط الرماد على الأرض دون عناء! أما إذا طلب منه عيسى أن يساعده ليغسل له شعره أو جسمه أو ليخلع له ثيابه ويبدلها، فقد كان يخترع قصصًا ليتخلص من العبء الذي يعرضه عليه شقيقه! فإذا ألحّ عليه استجاب واستحم بين يديه كطفل، ثم جففه ووضع عليه ثياباً، وسرّح له شعره ثم قدم له الشاي أو المتّة وبعض الطعام القادم من سلمية، بعدها ينام. «كانت الكوابيس هي الصور الملفوفة على محور، وتدار بيد مجهولة خلف الزجاجات المكبرة في صندوق عالمه الداخلي. وإذا كانت الكوابيس تجسيداً للخوف، ونفوق حصان والده من الجوع، عندما كان محمد في الخامسة، تجسيداً للجوع، وإذا كان الزحار مرتبطاً بالبطانية التي لم يتمكن من الاحتماء بها من البرد، إذا كانت هذه لا حلول لها فسيبقى التبغ المرهم الذي يرّمم قروحه التي تنزّ، والتي استمرّت تنزّ حتى وفاته. واستمر يبحث عن ذريعة ليقول إنه لم يستطع أن ينام، وعن أخرى ليقول إنه جائع، وعن كل الذرائع التي تقوده إلى التدخين».ويضيف عيسى: «يتحدث في قيلولته عن البطّانيّة التي كان يحتاج إليها في السجن ولم تُعْطَ له، لتبقى ذكرى حرمانه منها وذكرى مَن منعها عنه، تجعل أمعاءه تتشنج كما لو أنه مازال في السجن. ومع كل مظاهر الدفء الماثلة في غرفته وفي بيته، والبطانيات المكدسة التي لم ينزع غلافها، ينهض في الليل وهو يشعر بالبرد والغثيان، بعد أن تكون البطانية التي يغطّي نفسه بها قد انزاحت عن جسده لكثرة تقلبه أثناء النوم، ولضيق الفسحة على الأريكة التي ينام عليها. وقد رفض النوم على سرير مريح طوال حياته!».
ويتابع: «ظل يتغنى بالجوع والخوف. وببصيرة نافذة لا حدود لعمقها وعبقريتها، استمر يعزف ألحاناً عبقرية في الشعر والمسرح والمقالة والرواية، واستمر يغرف بثقة مذهلة وبعفوية من هذا المخزون الهائل من الجوع والخوف».
الضيوف والإذاعة
كانت الفترة الأخيرة من حياته شبه مغلقة بسبب العزلة، لولا بعض الضيوف ممن أحبوه والذين تناوبوا على زيارته في شقته في حي المزرعة بدمشق، ففي بادرة تكاد تكون نادرة استقبل الشاعر الماغوط في منزله وفدا من المثقفين العرب، وكان من ضمن الزائرين الشاعر الفلسطيني محمود درويش والشاعر المصري أحمد عبدالمعطي حجازي وعبلة الرويني أرملة الشاعر الراحل أمل دنقل والشاعر اللبناني شوقي بزيغ، بالإضافة إلى أرملة الشاعر والروائي ممدوح عدوان، ووزير الثقافة السوري محمود السيد.تحدث الماغوط خلال استقباله لضيوفه عن محطات مهمة في حياته، وكاد مراسل الإذاعة السورية أن يفسد أجواء تلك الزيارة، عندما أراد بث أجزاء من مجرياتها على الهواء المباشرة.كان منزل الماغوط مزدحماً باللوحات الفنية والبورتريهات التي رسمها له فنانون مشهورون ومغمورون. بدأ اللقاء بين الشاعر السوري وضيوفه بعناق حميم، ولاسيما مع درويش وحجازي. وفي المنزل حرص الجميع على تأمل اللوحات الفنية الكثيرة، بدءاً بلوحة جمال عبدالناصر مروراً بكمال خير بيك، ووصولاً الى الفنانة سعاد حسني التي نالت الكثير من محبة الماغوط؛ إذ يقول في حوار تلفزيوني: «ممكن تصير حرب. حرب البسوس، حرب العراق، حرب لبنان، ما أبكي، بس أغنية لفيروز أو صوت تلفون من سعاد حسني يخليني أبكي». كان الضيوف مبتهجين، وأمدّ حضورهم المفاجئ الماغوط بطاقة ساعدته على مواصلة الضحك والكلام، على رغم الإنهاك والتعب اللذين بديا في وجهه. وأصر الشاعر السوري الكبير على أن يحتفي بهم ضيافةً، فاعتذروا لأن الوقت كان مبكراً. ثم تحدث الماغوط عن أمنياته الجديدة، وضحكوا وهو يقول: «أود أن أعمل فيلما عن حياتي يخرجه محمد ملص، لئلا ينهيه في حياته»، في إشارة ساخرة إلى الأوقات الطويلة التي يمضيها ملص في إنجاز أفلامه. ثم سأل عباس بيضون بابتسامة عن أحوال أدونيس، قبل أن يخرج من خزانته نسخة من كتابه الجديد «شرق عدن غرب الله»، الذي صدر قبل أيام، ووصفه بأنه الكتاب الأهم في حياته.وبعد أن ضحك الجميع، فاجأ الماغوط الحضور بقصيدة جديدة كتبها، مهداة الى محمود درويش، وقبل أن يقرأها أكد انه كتب قصائده لمن يحب من الناس العاديين، ولم يكتب أبداً لرئيس أو حاكم. وأمام ميكروفون الاذاعة السورية، التي اقتحمت اللقاء بغية بثه على الهواء مباشرة، رفض الماغوط أن يقرأ القصيدة، وفشل المذيع في إقناعه بتسجيلها، ثم قرأها بطريقته اللافتة والمتعجلة أيضا، وفي المقطع الأول منها: «إنني كالشجر إذا لم تزرني الأنهار/ ولم تغسلني الأمطار/ أسيء إلى كل من حولي»...وبناءً على الطريقة غير اللائقة التي تحدث بها المذيع السوري مع الماغوط وضيوفه، قصر اللقاء، وكان يمكن أن يطول أكثر، لكن الجميع اختاروا الانصراف، لأن المذيع وهو يسعى وراء «خبطته» أساء إليهم، وهو يقول: «هل جئتم لتأبين الماغوط حياً، كما قمتم أمس بتأبين عدوان؟»، إلا أن الماغوط حل المشكلة على طريقته قائلاً: «حتى في الموت فرح»، فأصدقائي، ومنهم ممدوح عدوان، لم يغادروني، هم معي في دفاتري وعلى شرفاتي، لكن عدوان ترك فراغاً في حياتي».أما الشاعر حجازي فرفض أن تكون زيارة الماغوط تأبيناً مبكراً، وقال: «كل وجوه الحياة مجيدة، وكما نحتفي بالحياة علينا أن نحتفي بالموت أيضاً، إذا جاء مجيداً». وقال محمود درويش: «علينا دائماً ان نتذكر الموت لننساه، نتذكره لكي نتواضع، وننساه لكي نستمر».وقبل أشهر قليلة من وفاته، أجري معه حوار تلفزيوني، وقد بدا التعب واضحا على وجه وجسد الماغوط، لكنه لم يغير عادته في التدخين بكثرة والجلوس مرتاحا كما يريد، وربما النوم خلال اللقاء كعادته في السنوات التي تلت عام 2000 مع بدء عزلته، وقال والتعب بادٍ عليه: «عندما أتعب أضع رأسي على كتف قاسيون وأستريح، ولكن عندما يتعب قاسيون على كتف من سوف يضع رأسه؟ حلوة عيون النساء في باب توما حلوة حلوةوهي ترنو حزينة إلى الخبز والليل والسكارى»ويتذكر قائلا: في ليلة ماطرة باردة قرأت مذيعة تدعى عبلة خوري عن نبأ إعدام أنطون سعادة، وفي تلك اللحظة شعرت بالاستغراب وتبادر إلى ذهني سؤال: لماذا يعدم الإنسان؟ ويتابع: أحب سنية كثيرا، أحبها حبا كبيرا، وأراها في منامي دائما، وأحب بناتي كثيرا، إنهن أظافري اللواتي أواجه بهن العالم. سنية شاعرة مهمة جدا، وفي إحدى المرات كنا في السجن في نفس الليلة، هي في مكان وأنا في مكان آخر. ويتابع بصوته المتعب جزءا من قصيدة «الوشم» في مجموعة «الفرح ليس مهنتي»:الآن في الساعة الثالثة من القرن العشرين حيث لا شيء يفصل جثث الموتى عن أحذية المارة سوى الأسفلت سأتكئ في عرض الشارع كشيوخ البدوولن أنهض... حتى تجمعكل قضبان السجون وإضبارات المشبوهين في العالم وتوضع أمامي لألوكها كالجبل على قارعة الطريق حتى تفر... كل هراوات الشرطة والمتظاهرين من قبضات أصحابها وتعود أغصانا مزهرة مرة أخرى في غاباتها يسترجع الماغوط لحظات المرارة، التي عاشها في السجن ورافقته طيلة حياته من الجوع والخوف والعار والفشل، ويتحدث وكأنه يخاطب كل تلك الحالات قائلا: أنا مع الإمام علي عندما يقول إن الفشل شكل من أشكال الموت، وأنا لا أخاف من الموت فهو صديقي وأحبه، وأنا لا أعرف أن أتحدث ولا أنظر، أنا أكره العقل والتنظير، ولو تحدثنا عن الحزن فأنا أعتبره الوحدة، وحدة القلب، وكل شيء في هذا العالم حزين، رغم الممثلين الكوميديين وأفلام الكرتون العالم حزين، وفي ضوء القمر أو في الظلام الحزن مثل الله موجود في كل مكان.ويستطرد: رياض الريس كان يحب العناوين مثلي، نعم لقد كان يشجعني، مثلا في كتاب «سأخون وطني» كنت مخيرا بين عنوانين؛ «نفحات من المزبلة العربية» أو «سأخون وطني»، إلا أنه اختار عنوان «سأخون وطني»، وهذا الكتاب كان ممنوعا وبقي سنتين كاملتين ممنوعا، وسعره ألفا ليرة، وبعدها سمحوا بنشره وطباعته وبيعه.وينافح عن طريقته الشعرية ولغته فيقول: بالنسبة لموضوع القافية، فلم تكن تعني لي شيئا، وبدلا من البحث عن قافية تناسب البيت كنت بحاجة لـ»كندرة» ألبسها ورغيف لكي آكله ومكان أنام فيه، ومرة أحد اللغويين التقى بي على باب مقهى الهافانا في دمشق، قال لي: أنت وفي قصيدة من قصائدك وضعت «طالما» وبعدها وضعت اسماً... طالما لا تدخل على اسم. فقلت له: لا سوف تدخل، الناس تدخل إلى السجون وإلى المعتقلات والمصحات العقلية، وجواسيس تدخل وتخرج، لم تضق عينك إلا على طالما خاصتي؟! وهذه القصة قديمة جدا، ولكن حتى الآن، ولو أخطأت لغويا أصر على خطئي او حتى لو كان هناك خطأ مطبعي أصر عليه أيضا، لا أسمح لأحد بالعبث بكتاباتي. أكتب بشكل صحيح وأنطق بشكل صحيح، وانتهى.كان بسيطا يفرح بملابسه كالطفل الصغير: سعيد جدا ببجاماتي الجديدة، واليوم سأحصل على اثنتين أيضا، أحب الملابس كثيرا، كنت معقدهن ببيروت، معقد علي الجندي، وعاصي الرحباني، باللبس، عاصي كان يقول لي: يا محمد على الواجهة بشوف الكنزة هيك «إشارة إلى انها صغيرة»، ثم تقوم بلبسها فتصبح هيك «كبيرة جدا». ويشرح باختصار علاقته بالسلطة قائلا: عندما يقول لي أي مسؤول في الدولة: مسرحيتك، قصيدتك، أو مقالتك، حلوة. أقول في نفسي: إذاً هناك خطأ ما في مسرحيتي. وإذا تحدثت عن تكريمي بعد هذا العمر أشعر كأني مشروع قبر، وهؤلاء المكرمون هم مساهمون فيه. أنا لا أتصالح مع السلطة، والأشخاص هم أشخاص، ويجب على الشاعر ألا يكون رفيقا للسلطة أبدا أو حتى صديقا، وهذا مؤكد منذ عصور، أو أستطيع أن أقول إن هذا هو إحساسي. ويتذكر حادثة في بيروت عندما كان ملاحقا: كان سامي الخطيب وزيرا للداخلية في لبنان، وكان يعمل مع المخابرات، قال لي: شو بتشتغل ولاك؟ وكانوا قد سلمونا للمخابرات تقريبا عام 1959، كان انقلاب القوميين وقتها، أي تقريبا ما بين 1960 و1961، فقلت له: شاعر. فقال لي: هناك كيس شعر في مؤخرتي، هل تستطيع إخراجه؟«المسافر» ... جاهز بشكل نهائي!
يقول الكاتب أديب قزاز: حين وصلت إلى بيته (الماغوط) كانت الساعة الثامنة مساءً، والتاريخ قبل وفاته بأسبوع واحد، وجدت عنده الفنانة السورية رغدة والفنان أيمن زيدان، كان الحديث يدور حول الجائزة وذكريات فيلم الحدود، الذي لعبت فيه الفنانة رغدة دور البطولة إلى جانب الفنان دريد لحام. وفي سياق الكلام صاح الأستاذ الماغوط بصوت عالٍ، وكأنه منتصر في معركة كبرى: لقد اخترقت الأنظمة والقوانين المعمول بها في الطائرات.قالت له رغدة: ماذا تقصد بذلك يا أستاذ؟. أجاب وهو يضحك: لقد استطعت أن أدخن «سيجارة» في الطائرة، رغم الحظر الشديد. ثم راح يصور لنا جوّ الاحتفال والاحتفاء به من قبل الجمهور المزدحم، الذي رافقه إلى الفندق الذي كان ينزل به، ثم قال إنهم يموتون بي حباً هناك. رد عليه الفنان أيمن زيدان قائلاً: هذا ليس غريباً يا أستاذ محمد، فالناس كلها تحبك، أنت رمز كبير للوطن. لكن اللافت هو جواب الأستاذ على السؤال الأخير، الذي وجهه له الفنان أيمن زيدان، حين سأله عن آخر أعماله المنجزة، علّه يجد فيها ما يناسبه. فردّ الأستاذ الماغوط قائلاً: لم يبقَ لديّ سوى فيلم واحد منجز على أكمل وجه وجاهز بشكله النهائي. سأله الفنان أيمن زيدان عن اسم الفيلم... فأجاب الأستاذ، وهنا بيت القصيد: اسم الفيلم «المسافر»، وأشار بيده إلى ما وراء الأفق. لا أنكر أني توجست شيئاً من اسم الفيلم، ومع ذلك لم تستطع المدن التي سافر إليها أستاذنا الكبير أن تنتزع من قدس أقداسه بداوته، البادية أولاً في الوشم المنقوش فوق ظاهر يده اليمنى، والواضحة في طباعه وتصرفاته، فما من مرة يتحدث فيها إلا وتشتمّ رائحة سلمية تتضوع من ألفاظه ومفرداته، لقد آن أوان السفر إليها طالما داعبت خياله وشاغلته في كل أوقاته. ذات يوم ليس بالبعيد قال لي: أكاد أجن من شوقي إليها، إنها سلمية؛ الدمعة التي ذرفها الرومان على أول أسير فكّ قيوده بأسنانه. صحيح أنه أحب دمشق وعاش فيها لكنّ قلبه كان معلّقاً بجذوره لحد العبادة.