الدكتور حامد الحمود... وثقافة الإخوان المسلمين
أثار مقال د. حامد الحمود في (القبس) 16/ 3/ 2021 الاهتمام من جديد بالعلاقة الشديدة التوتر بين جماعة "الإخوان المسلمين" وبين الفكر والتجديد والثقافة بمختلف مجالاتها، وهي مشكلة تعانيها جماعات الإخوان ليس في الكويت وحدها، بل كذلك في مصر وسورية ولبنان والعراق والسودان، وربما في كل مجتمع ودولة عربية ومكان.فهذه الجماعة المليونية، "كبرى الحركات الإسلامية"، تروج لأفكار وقيود لا يمكن أن تنتج أدباً أو فكراً إنسانيا أو ثقافة، وهي تضم تيارا بشريا واسعا من الرجال والنساء منذ عام 1928، نحو قرن من الزمان، في بلاد وظروف شتى، داخل العالم العربي وأوروبا وأميركا وغيرها، ولكنها جماعة لها أولويات وأفكار أساسية وحزبية ودينية خاصة، لا علاقة لها بالثقافة والفكر والإبداع والتأليف، خارج إطار اهتماماتها الحزبية. وكانت الجماعة تختبئ لسنوات خلف حجج السجن والمنع والاضطهاد، ولكنها منذ فترة ليست بالقصيرة موجودة في دول عربية وإسلامية وأوروبية وأميركية، دول ديمقراطية وليبرالية وغنية، وتتمتع بحريات ومكتبات وجامعات أكثر من أي مكان، وتحت سيطرة الجماعة "أموال قارون" وخريجون ودكاترة بعدد حبات الرمل، وشركات نشر ومطابع ... ولكن بلا فائدة أو عائد.لم يعرف تاريخ الثقافة العربية الحديث والقديم تياراً سياسيا جماهيرياً بهذا الاتساع كالإخوان المسلمين، بهذا الجفاف الثقافي وندرة الإنتاج الأدبي والفكري وبشكل محرج في الواقع! فما سر هذه الظاهرة؟ ولماذا الإخوان بهذه الحال؟
آلاف الإخوان عاشوا في دول كثيرة تجارب قاسية في السجون وخارجها، ومرت بالكثير منهم ظروف تلهم أجمل الروايات التي قد تهمش أشهر وأنجح الروايات العربية، وتوحي بأروع القصائد والملاحم الشعرية، هذا إلى جانب ما يمكن استلهامه من حبكات مسرحية وقصص سينمائية وتحليلات فكرية، فأين استفادة الإخوان؟ وأين الإبداع؟ وأين المطبوعات التي تكتسح الأسواق وتصبح نقاط تحول في الثقافة العربية؟! تقول الفقرة في مقال د. حامد الحمود عن إخوان الكويت ما يلي: "الإخوان في الكويت ممثلون في مجلس الأمة، وهم يهيمنون على الاتحاد الوطني لطلبة الكويت منذ أكثر من ثلاثة عقود، وهم أطباء ومهندسون وموظفون وأساتذة في الجامعة وفي مدارس الحكومة، وربما كل كويتي له صديق أو يعرف آخر له ميول إخوانية لكن مع هذا الحضور الكثيف في المجتمع، فإن حضورهم الثقافي هامشي وضئيل فهم قليلون مثلاً في كليات الآداب والعلوم الاجتماعية، فحسب علمي لا أعرف روائيا أو شاعرا أو أديباً معروفا على نطاق عربي. فإنتاج الإخوان الأدبي أو الفكري إما غير موجود وإما غير معروف، وإلى حد كبير ظلوا سجناء بما أنتجه حسن البنا وسيد قطب".ولكن لماذا لا نرى أي إبداع ثقافي وأدبي في مجلات وكتب ومقالات الإخوان؟ أين الروايات والدواوين و"اللوحات"؟ وهل باستطاعتهم البقاء إخواناً وأعضاء ملتزمين وكتابة أجمل الروايات والأشعار والمسرحيات والكتب.. في الوقت نفسه؟ وهل الذي يعوق الإخوان عن الإبداع أنهم حركة عقائدية ملتزمة؟ أم أن أفكار وقيود وأجواء "الجماعة" تجفف ينابيع الثقافة والإبداع الأدبي؟ ولكن الثقافة العربية والعالمية عرفت روائيين وشعراء كباراً "ملتزمين" وأعضاء في حركة سياسية عقائدية، فلماذا لا نجد أمثال هؤلاء بين "الإخوان المسلمين"؟ربما، في اعقتادي، لأن للإبداع الأدبي والفكري إلى جانب الثقافة والمهارة والموهبة، شروطا تتعلق بروحية التجديد والتمرد على ما هو قائم، والرؤية الإنسانية في النظر الى التجربة البشرية وغير ذلك، ولن نتعب لنكتشف أن فكر "الإخوان المسلمين" الحزبي الذي نراه في مؤلفات "حسن البنا" و"سيد قطب" و"القرضاوي" و"يكن" و"حوى" وغيرهم، لا علاقة له بروحية التجديد والتمرد أو "الرؤية الإنسانية العميقة الى التجربة البشرية فهذه حركة دينية محافظة معادية للتمرد، إلا بما يخدم مصالحها الانتخابية والمادية، كما تعتبر شعار "الإنسانية" في مجال الثقافة، "مؤامرة يهودية" كما تقول كتبهم!فكيف تبدع هذه الجماعة؟ وكيف تجدد؟ وكيف تنتج روائع الأدب من دواوين شعر وروايات وتحليلات فكرية؟ وكيف تثور على القيود وهي في بحث مضن عن المزيد منها؟!إن فكر الإخوان يعتبر الشعر نفسه غير مرحب به إلا للدعاية والدعوة، واستخدام "الرموز والأساطير" ترويجا للوثنية، وسيجد مبدع الرواية والقصة، أن الخلوة بين بطل القصة والبطلة، وفي علاقات الشخصيات الأخرى، وكذلك في الحوار مشاكل ومحرمات، ثم إن "الأدب الديني"، إن كان هذا ما سيكتبه الإخوان، لا بد أن تنتهي فيه القصة والقصيدة بانتصار ما يعتبره الكاتب مرضيا لفكر الجماعة، فهل يسهل بعد هذا كتابة الشعر والرواية والنقد والأدب والمسرح؟ والأدب الجيد يجتذب عادة القراء من مختلف دول العالم والثقافات، فهل تصلح الرواية والقصيدة المكتوبة وفق قيم ومقاييس "الإخوان المسلمين" للترجمة واجتذاب القارئ الأوروبي والآسيوي، والمسيحي والبوذي واليهودي واللاديني؟ولا يعلم الكثير منا أن أدباء وكتاب الجماعات الإسلامية يعتبرون الثقافة العربية بمجمل إنتاجها وكبار أعلامها المعاصرين ضحية "انحرافات جاهلية" و"تغريبية" وينظرون لكبار الأدباء والأديبات، كمروجين "لأمراض وعلل الغرب" في مجتمعنا، وفي المقابل لدى الإسلاميين ما يسمونه "الأدب الإسلامي" أي الأعمال الأدبية المكتوبة وفق مقاييس وفتاوى وآراء وأولويات الإخوان المسلمين والجماعات الإسلامية وربما قصائد داعش والقاعدة! و"الأدب الإسلامي" مجهول من أتباع الإخوان أنفسهم! وهو ليس "الأدب الإسلامي" المعروف في كتب التاريخ النقد والأدب!ويشرح أحد البارزين في هذا المجال، من المدافعين والمنظرين لهذا الأدب، الأستاذ الفلسطيني (مواليد جنين 1946) د. مأمون فريز جرار، بعض ضوابط "القصة الإسلامية" مثلا بأن عليها "التمييز بين الإيمان والكفر" يقول في مقال له: "فإذا كان الاشتراكي ينظر الى الواقع ويفسر تحولاته في ضوء إيمانه بالصراع الطبقي، فإن الفكر الرأسمالي ينظر الى المجتمع في ضوء النظرة النفعية التي لا تقيم وزنا للحلال أو الحرام، وإنما لما يحقق المصلحة الفردية أو المصلحة لفئة من فئات المجتمع، وإذا كان هذا هو موقف كل منهما فإن المسلم ينظر الى المجتمع من زاوية الإيمان والكفر، لا من زاوية الطبقة أو المنفعة، ولكنه ينظر الى الناس من خلال ولائهم الاعتقادي وسلوكهم المنضبط بهذا الاعتقاد". وينتقد بشدة روايات "نجيب محفوظ" حيث "إننا لا نستطيع أن ندرج قصص نجيب محفوظ ورواياته- مثلا- في القصة الإسلامية لأن في تصوره الاعتقادي ما يجافي ذلك".ومما يأخذه د. "جرار" على الأديب المصري الكبير أنه يرى مثلا، "أن يتمتع الفرد بحرية الفكر والعقيدة في حماية قانون يخضع له الحاكم والمحكوم وهذا التصور للحرية غير منضبط بمفاهيم الإسلام لأن حرية الإنسان غير مطلقة في مجال العقيدة، فلا يسمح لمسلم أن يرتد عن دينه بدعوى الحرية". (صحيفة المسلمون، 29/ 1/ 1988)ومن أعلام هذا "الأدب الإسلامي" الطبيب والروائي والشاعر المصري د. "نجيب الكيلاني" (1931-1995) الذي عمل بعض الوقت طبيباً في الكويت ودولة الإمارات، وكان قد انضم لحركة الإخوان مبكراً في شبابه، وتقول الويكيبيديا إن دعوة الإخوان "كان لها أبلغ الأثر في تكوين عقليته السياسية"، حيث تعرف على الحركة عام 1948 في احتفال المولد النبوي في مدينة "ميت غمر" وتقول الموسوعة: "وكان سبب التفافه حول هذه الجماعة أنه وجد فيهم أسلوباً جديداً في الخطابة والاحتفال بالمناسبات الدينية". ويقدم د. جرار نموذجاً من روايات "الكيلاني" في مقاله نفسه بالجريدة عن تناول الكيلاني لصورة المرأة فيقول: "ولو وقفنا على صورة المرأة في روايات نجيب الكيلاني الإسلامية- وليست كل رواياته إسلامية باعترافه هو- لوجدناه يقدم لنا صورة متوازنة، فهو يقدم لنا فاطمة الداعية المسلمة المجاهدة- في رواية عذراء جاكرتـا- التي تلتزم بإسلامها وتقف في وجه رئيس الحزب الشيوعي الأندونيسي وتجـادله في معتقداته، ثم تموت شهيدة في سبيل عقيدتها، وفي المقابل نجد صورة المرأة الشيوعية في شخصية "تانتي" زوجة رئيس الحزب الشيوعي، ونجد صورة المرأة المتجهة إلى الله التي تعيش واقعها بما فيه من خروج على الشرع، ولكنها تتجـاوزه، وتستعلي عليـه وتلتزم بدينها، نجد هذا في شخصية جليلة في رواية "رمضان حبیبي، و"جاماكا" في رواية "عمالقة الشمال". (المسلمون، 29/ 1/ 1988- ضوابط القصة الإسلامية) ولا مجال للأسف في هذا المقال للتوسع في علاقة الإسلاميين بأنواع الثقافة والفنون، وقد عرفت الدولة الإسلامية فنون الخط والزخرفة والرسم وتزيين المخطوطات وغير ذلك، ولكن الفنون كانت غالباً برعاية السلاطين والخلفاء والأمراء، ولم يكن الفقهاء أو خطباء المساجد وعامة المتدينيين راضين عنها أو مقبلين عليها. وقد اتبع "الإسلام السياسي" ومنظوره في القرن العشرين منهجاً متشدداً كذلك، إذ نظر إلى مختلف الفنون وخاصة الرسم والنحت والتمثيل والغناء والسينما، بعين الريبة والتحريم في معظم الأحيان، ولا يزال الجدل مستمراً أما فن التمثيل فنختتم الكلام هنا بمقال نشر في مجلة إسلامية بعنوان "رأي الفقهاء في التمثيل" للشيخ وهبة سليمان الألباني غاوجي (1923-2013)، وقد لخصت إدارة المجلة بعض آراء الفقهاء الواردة في المقال وهي كما سيرى القارئ محاذير لا تسهل مسايرتها. تقول المجلة: "لم يكن التمثيل معروفاً أيام الفقهاء المتقدمين لذلك لم يتكلموا فيه ولم يبينوا حكمه، ولما ظهر في العصور المتأخرة قام بعض العلماء باستنباط حكمه فذهب بعضهم الى الجواز بشروط منها: - ألا يؤدي إلى الفتنة.- ألا يكون هناك اختلاط للنساء بالرجال. - أن يكون الموضوع حاثاً على الفضيلة وينهى عن الرذيلة.- ألا تنتهك حرمة السابقين كالصحابة، رضي الله عنهم، فهؤلاء لا يجوز إظهارهم فضلا عن الأنبياء والمرسلين.- ألا تستعمل آلات موسيقية محرمة.- ألا تُزوّر الحقائق من أجل الحبكة والإثارة.- ألا تظهر النساء أصلا في التثميل الى غير ذلك من الشروط التي ذكروها.وذهب بعضهم الى المنع مطلقا سدا للذرائع، ولأدلة أخرى". (منار الإسلام 22/ 12/ 1987) ولا بد للاستفادة من تجربة واقعية لمعرفة الثقافة وما يمكن أن يجري لها في ظل الإسلاميين من دراسة أحوال الأدب والفكر والفن والثقافة في إيران الإسلامية منذ عام 1979، خلال أكثر من أربعين سنة من المعاناة الكاملة، في دولة عرفت بالثراء الفكري والفني، قبل إطباق الثورة الإسلامية عليها، وقد خفف من هذه المعاناة بعض الشيء لحسن الحظ وجود تجمعات إيرانية كبيرة مهاجرة في أوروبا والولايات المتحدة وكندا وغيرها. ولعل أقل ما يمكن التنبيه إليه ختاماً أن الثقافة العربية والإسلامية عرضة لمخاطر كبيرة إن هيمنت الجماعات الإسلامية بألوانها ومذاهبها على هذه التجمعات وعلى الفكر والإبداع في أي مكان.