ترأس المؤرخ جون بيو فريق العمل الذي أصدر وثيقة رسمية جديدة حول الدور الذي تنوي بريطانيا الاضطلاع به في العالم، وهي تحمل العنوان التالي: «بريطانيا العالمية في عصر المنافسة: مراجعة شاملة للأمن والدفاع والتنمية والسياسة الخارجية».

تمتد هذه المراجعة على 114 صفحة وتذكر الاستراتيجية المطروحة نقاطاً عدة، أبرزها الالتزام بإنشاء نظام دولي منفتح ومتين لحماية الحريات البشرية، وتعميق التواصل في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وترسيخ الالتزامات تجاه حلف الناتو والأمن الأوروبي، والقيام باستثمارات جريئة في مجال العلوم والتكنولوجيا. خضعت استراتيجية حكومة بوريس جونسون لنقاشات مكثّفة، لكن خيّمت عليها أجواء تشاؤمية بشكل عام، ونظراً إلى أهمية دور رئيس الوزراء في معركة «بريكست» المريرة، يظن عدد كبير من منتقديه أن فكرة «بريطانيا العالمية» والمراجعة الأخيرة هما مجرّد امتداد لمعركة «بريكست» وتغطية لإخفاقاتها، لكنها مقاربة ذكية، ولو أنها قد تكون غير قابلة للتنفيذ، وفق تقييمات أكثر إيجابية، فبعد قراءة المراجعة الشاملة والوثيقة التي ترافقها وتحمل عنوان «الدفاع في عصر المنافسة» (تتألف من 74 صفحة)، استنتج مراقبون آخرون أن زيادة الإنفاق على الدفاع لن تكون كافية لإنقاذ الجيش البريطاني من التزاماته القائمة أو تجهيزه لأي حروب مستقبلية.

Ad

لكن رغم الشوائب التي طبعت السياسات الخارجية والدفاعية البريطانية في الماضي، بما في ذلك إقرار «بريكست» وقلة الاستثمارات في القدرات العسكرية، لا سيما القوات البحرية، يمكن اعتبار المراجعة الأخيرة واعدة، وبفضل هذه الوثائق، وضع جونسون بريطانيا على مسار استراتيجي مشابه للمسار الأميركي، وبدءاً من ملف الصين وحلف الناتو وصولاً إلى الإنفاق العسكري، تنذر المراجعة الشاملة بنشوء علاقة ثنائية غير مسبوقة في المسائل التي تهمّ واشنطن والحكومة البريطانية. عند قراءة المراجعة الشاملة ومقارنتها بـ»الدليل الاستراتيجي المؤقت للأمن القومي» الذي طرحته إدارة جو بايدن، لا مفر من ملاحظة نقاط التشابه بينهما ومدى تركيزهما على نشر الديمقراطية، وترسيخ النظام الدولي، والكفاءة الاقتصادية، والتغير المناخي، وتحديات التمويل غير الشرعي، والتهديدات التي تطرحها الأنظمة الاستبدادية عموماً والصين خصوصاً. لا يمكن فصل المراجعة الشاملة عن سياق «بريكست» لأي سبب، لكنها تُشجّع بريطانيا على التقرّب من الولايات المتحدة ومراعاة مخاوفها الأمنية، وهذا ما حقّقته فعلاً، ففي حين ترفض ألمانيا التصرف كقوة عظمى وتزيد فرنسا تركيزها على «الاستقلالية الاستراتيجية»، يُفترض أن تعتبر واشنطن المراجعة البريطانية الشاملة مؤشراً إيجابياً يستحق الدعم والتشجيع.

يتعلق أبرز تغيير في الرؤية البريطانية بالصين. ذكر مسؤول مرموق سابق في الاستخبارات البريطانية خلال مؤتمر منذ سنوات أن العلاقات الاستخبارية بين واشنطن ولندن تبقى استثنائية على جميع المستويات باستثناء العلاقة مع الصين، حيث كانت بريطانيا تُعتبر منذ ذلك الوقت غير جديرة بالثقة في الملف الصيني، مع أن «المنافسة بين القوى العظمى» لم تكن عبارة شائعة بعد في الأوساط الأمنية الأميركية. زار رئيس الوزراء السابق، ديفيد كاميرون، بكين منذ ست سنوات فقط ودعا إلى إطلاق «عصر ذهبي» في العلاقات الثنائية، لكن تغيّر الوضع اليوم: تعتبر المراجعة الشاملة الصين «منافِسة منهجية» ولم تتردد بريطانيا في التصدي لبكين بسبب أحداث هونغ كونغ. يُعتبر هذا التحوّل بالغ الأهمية لأنه يعكس جوهر التحديات المطروحة على نفوذ الولايات المتحدة وازدهارها.

على مستوى الإنفاق العسكري، تبدو الاستثمارات المعلنة حتى الآن كبيرة، إذ من المنتظر أن يُخصَّص 24 مليار جنيه استرليني (حوالي 33 مليار دولار) لرفع مستوى الإنفاق على الدفاع خلال السنوات الأربع المقبلة، أي ما يساوي زيادة بنسبة %14. يدخل جزء من هذه الخطة في خانة الأهداف التي حدّدتها وزارة الدفاع. في الماضي، كان هذا النوع من الاستراتيجيات الدفاعية البريطانية يشمل استثمارات بنيوية مفصّلة تترافق مع أرقام وتواريخ تقريبية لمعرفة موعد تشغيل الموارد الجديدة (مثل السفن)، إذ تغيب هذه التفاصيل للأسف عن المراجعة الأخيرة، لكنّ هذا الوضع لا يغيّر حقيقة واضحة: اعتُبِرت زيادة الإنفاق التي أعلنها بوريس جونسون مستحيلة من الناحية السياسية في المملكة المتحدة منذ بضع سنوات.

من المعروف أن هذه الاستثمارات ستزيد حجم البحرية الملكية وتُموّل التقدم المطلوب في مجال القوة الفضائية والإلكترونية، فضلاً عن توسيع الترسانة النووية. من المفيد أن تزيد بريطانيا، وجميع الدول الأعضاء الأخرى في حلف الناتو، إنفاقها على الدفاع لكن لن يتحقق هذا الهدف إلى أن يعتبر وزراء المالية الأوروبيون أنفسهم خبراء ماليين واستراتيجيين بدل أن يتعاملوا مع المشاكل وكأنهم محاسِبون أو من أشرس المدافعين عن سياسة التقشف، لكن رغم ظهور مشكلة الإنفاق الأوروبية نفسها في المملكة المتحدة، يبقى إنفاق بريطانيا على الدفاع أكبر من دول الناتو الأخرى، باستثناء الولايات المتحدة طبعاً.

ما الرد الأميركي المثالي إذاً على هذا الوضع الذي يخصّ قوة متوسطة تدعم مصالح الولايات المتحدة وأهدافها ورؤيتها أكثر من أي حليف آخر؟ قال رئيس الوزراء ووزير الخارجية البريطاني السابق، اللورد بالمرستون، يوماً: «ما من حلفاء أبديين ولا أعداء دائمين لنا، بل إن مصالحنا أبدية ودائمة، ومن واجبنا أن نُحقق تلك المصالح».

يسهل أن نفترض استمرار «العلاقات الخاصة» إلى الأبد وتعمّقها مع مرور الوقت وأن نتوقع توثيق الاصطفافات القائمة تلقائياً. لكنّ هذه الأحداث ليست حتمية بأي شكل، إذ تحتاج بريطانيا إلى الولايات المتحدة أكثر مما كانت تفعل في السابق بعد إقرار خطة «بريكست»، لكن لا يعني ذلك أن هذه الرؤية الجديدة التي تتمحور حول النفوذ البريطاني وباتت أكثر قرباً من الرؤية الأميركية منذ نهاية الحرب الباردة على الأقل تخلو من المجازفات، كذلك، يجب أن يتذكر صانعو السياسة الأميركية دوماً أن توثيق التحالفات ليس مرادفاً للخنوع، حيث تعكس المراجعة البريطانية الشاملة طبيعة المقاربة البريطانية، ومن المتوقع أن تعكس أي قرارات سيتخذها البلد في السنوات المقبلة الرؤية نفسها، سواء كانت ترتكز على المصالح الأميركية أو تتعارض معها.

لقد غيّر بوريس جونسون السياسة الخارجية البريطانية تجاه الصين، وهو يقوم باستثمارات حقيقية في الرؤية الأميركية الخاصة بمنطقة المحيطَين الهندي والهادئ تزامناً مع اتخاذ مواقف أكثر صرامة من ألمانيا وفرنسا ضد روسيا. إنها مقاربة إيجابية وجديرة بالثناء، ولا بد من تشجيعها والحفاظ عليها في سياق التحالف الأميركي البريطاني أولاً: ستتابع بريطانيا هذا المسار إذا حافظت على أمنها وازدهارها وقوتها. بعبارة أخرى، حان الوقت كي تتخلى إدارة بايدن عن أي بغض متبقي تجاه المحافظين وبوريس جونسون بسبب «بريكست» وتتطلع إلى المستقبل. اعتبر الكثيرون في واشنطن خطة «بريكست» حمقاء وكارثية كونها سبّبت اضطرابات كثيرة لا تزال تداعياتها مستمرة حتى الآن في إيرلندا الشمالية واسكتلندا وأماكن أخرى، لكن بعد إقرار الخطة، استغل جونسون الظروف لإحداث واحد من أكبر التحولات الاستراتيجية في تاريخ بريطانيا المعاصر.

ستستفيد واشنطن من تحويل هذا التغيير إلى حدث يصبّ في مصلحة بريطانيا، بعيداً عن الخطابات اللطيفة والمكالمات الودّية بين جونسون والرئيس جو بايدن، وستعطي المراجعة الشاملة منافع مزدوجة، فتحصل إدارة بايدن على مقاربة تستطيع التمسك بها، لا سيما في المسائل التي فشل حزب المحافظين في حلّها تاريخياً، على غرار تسامحه الدائم مع تدفق الأموال الروسية في أنحاء لندن. بعدما فرضت الولايات المتحدة عقوبات أكثر صرامة على روسيا بما يضمن تضرر الكرملين مباشرةً، حان الوقت كي تتعامل المملكة المتحدة مع هذا «التمويل غير الشرعي»، علماً أن هذه العبارة تَرِد 12 مرة في وثيقة «بريطانيا العالمية في عصر المنافسة».

لن تكون بريطانيا الدولة الوحيدة التي تترقب ردة الفعل الأميركية على ما يحصل، بل إن دولاً أخرى تنتظر ردّ واشنطن على تصرفات قوة متوسطة بدأت تأخذ المجازفات للتقرب من المحور الأميركي، بينما يتردد حلفاء وشركاء آخرون في أوروبا وآسيا في القيام بالمثل. إنها فرصة مناسبة كي تثبت الولايات المتحدة دعمها لمفهوم تؤيده ظاهرياً لكنها لا تلتزم به دوماً: ربما نشأ العالم الليبرالي المنفتح والمبني على القواعد باعتباره مشروعاً أميركياً، لكن تدعمه جهات أخرى أيضاً لأنه يضمن الخير العام، حتى أن واشنطن مستعدة للالتزام بالقواعد التي حدّدتها بنفسها، وفي حين تسعى الصين إلى طرح نقيض للعالم المنفتح، يجب أن تدعم الولايات المتحدة تلك الجهود، لكن بحذر، للسماح للشعوب باتخاذ قراراتها الخاصة، إذ لا تتبنى بريطانيا هذه المقاربة للتقرب من الولايات المتحدة بكل بساطة، بل لأن هذا النهج يفيدها شخصياً. إذا ساعدت الولايات المتحدة بريطانيا لتحقيق النجاح في هذا المجال، قد تحصد واشنطن بدورها منافع كبرى حول العالم.

راين إيفانز – وور أون ذا روكس