بعد الحرب الباردة سادت أفكار مفادها أن التقارب الاقتصادي العالمي بات إلزامياً، مما يعني أن الترابط الاقتصادي بين الدول أصبح حتمياً، واتّضح لاحقاً أن هذه الأفكار لم تكن صحيحة، لكن كان يصعب أن يتوقع الكثيرون منذ بضع سنوات عودة أكبر المستفيدين من العولمة إلى نسخ متنوعة من الاكتفاء الذاتي.تُعتبر الصين والهند والولايات المتحدة أهم ثلاث دول اليوم من حيث حجم الاقتصاد والعدد السكاني على مستوى العالم، وتشكّل هذه البلدان مُجتمعةً حوالى %60 من الاقتصاد العالمي، بما يفوق النسبة المسجّلة خلال حقبة الحرب الباردة، لكن تبنّت الولايات المتحدة في عهد الرئيس دونالد ترامب مبدأ «القومية الاقتصادية»، في حين اختارت الصين في عهد الرئيس شي جين بينغ والهند في عهد رئيس الوزراء ناريندرا مودي مبدأ «الاكتفاء الذاتي»، وعلى عكس معظم الاقتصادات الكبرى، ارتفع الناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد في هذه الدول الثلاث خلال العقد الماضي، ويشير هذا النمط من العولمة التفاضلية إلى نشوء نسخة جديدة من الاكتفاء الذاتي، وقد تطغى هذه النزعة على الاقتصادات الكبرى الثلاثة خلال العقد المقبل وما بعده.
تقليد قديم؟
لطالما كان الاكتفاء الذاتي من أبرز أهداف الصين، لكنه بقي بعيد المنال، فبدءاً من أواخر القرن السابع عشر وصولاً إلى منتصف القرن التاسع عشر، طوّرت الصين حجم الإنتاجية في سوقها المحلي وأنشأت قطاع تصدير مربح ولو أنه خاضع لمراقبتها، لكن مسيرة التقدم الداخلي انتهت فجأةً مع بدء حرب الأفيون في عام 1839، حين دخلت الصين «قرن الإهانة» على يد القوى الخارجية، فانتهى هذا القرن في عام 1949 مع انتصار الحزب الشيوعي الصيني على خصومه القوميين ومناصريه الخارجيين، لا سيما الولايات المتحدة، ولكن بدءاً من عام 1945، شدّد الزعيم الشيوعي ماو تسي تونغ على الجانب القومي والمستقل من مبدأ الاتكال على الذات، فقال: «على أي مبدأ يُفترض أن ترتكز سياستنا؟ يجب أن تُبنى على قوتنا الخاصة ويعني ذلك تجديد البلد عبر الجهود الذاتية»، وأعاد الرئيس شي جين بينغ إحياء هذه الفكرة في عام 2018، فزعم أن «النزعات الأحادية والسياسات الحمائية التجارية توسّعت، مما يجبرنا على إطلاق مسار الاتكال على الذات»، وتماشياً مع هذه العقلية، دعم الرئيس الصيني إنشاء قاعدة صناعية عسكرية متطورة تكنولوجياً لمنع إهانة الصين للمرة الثانية بسبب قوة الابتكار التكنولوجي الأميركي هذه المرة.على غرار الولايات المتحدة والصين، دعمت الهند رؤية تعتبر البلد قادراً على الازدهار بناءً على قوة السوق المحلي الكبير وحجم الصادرات المدروس، إذ كانت الهند تنتج نحو ربع الناتج المحلي الإجمالي العالمي في عام 1700 وفق المؤرخين، لكنها تحمّلت لاحقاً قرنَين من الإهانة حيث أضعفت المملكة المتحدة تدريجاً قاعدتها الصناعية لاستخراج المواد الخام وإنشاء سوق يفيد المصنّعين البريطانيين، وبعد نيل الاستقلال في عام 1947، طوّرت الهند شكلاً جزئياً من الاكتفاء الذاتي بقيادة الحكومة تحت غطاء «عدم الانحياز» الذي بدأ على شكل مقاربة سياسية وعسكرية لكنه عاد وتحوّل إلى نموذج تنموي يتبنى الأفكار التي كانت رائجة في تلك الفترة وتتعلق بحماية الصناعات الناشئة واستبدال الواردات.بدأت الهند تفتح اقتصادها على العالم في بداية التسعينيات، لكنها فعلت ذلك عبر عملية مدروسة اتخذت لاحقاً منحىً قومياً هندوسياً بعد انتخاب ناريندرا مودي رئيساً للحكومة في عام 2014، وتشمل الهند نحو %18 من سكان العالم، ولا تزال ملتزمة بسياسة عدم الانحياز في عصر العولمة، وهي تستفيد من التكنولوجيا والاستثمارات الصينية والأميركية في آن لتطوير بدائلها الخاصة، وتهدف سياسة الاكتفاء الذاتي التي أطلقها مودي إلى بلوغ مستوى الابتكار المحلي الصيني، مما يعني إنشاء قاعدة محلية آمنة تستطيع الشركات الهندية استعمالها للتعامل مع الجهات الخارجية، كما فعل الصينيون أو حتى الأميركيون سابقاً.تحدي الابتكار
ستتوقف مدة استمرار عصر الاكتفاء الذاتي الجديد جزئياً على طول المنافسة بين القوى العظمى وحدّتها، ومن المتوقع أن تتابع حكومات الدول الثلاث الكبرى دعم الاكتفاء الذاتي طالما تستمر المنافسة الأمنية المحتدمة، لكن الظروف الراهنة توحي بأن المنافسة بين الولايات المتحدة والصين من جهة وبين الهند والصين من جهة أخرى ستكون طويلة جداً.قد تدعم القوى السياسية القائمة التوجه نحو القومية الاقتصادية، لكن قد تتخذ قوى السوق في المقابل اتجاهاً معاكساً، فمن المعروف أن مبدأ الاكتفاء الذاتي يخنق الابتكار، مما يعني أنه يكبح النمو على المدى الطويل أيضاً، حيث تتوقف آمال الهند في تحقيق نمو مستدام على استمرار الثروات الكبرى التي تحصدها من قطاع تكنولوجيا المعلومات والتمسك بقدرتها على الابتكار، وترتكز المنافسة الأميركية الصينية من جهتها على أهمية الابتكار، مما يعني أن كل بلد منهما يخشى أن يتفوق عليه الطرف الآخر في المجالات التكنولوجية والعسكرية. لكن يتطلب عامل الابتكار استثمارات ضخمة في القطاع الخاص، لا سيما في الهند التي تفتقر إلى الأبحاث الحكومية والأكاديمية ومشاريع تطوير البنى التحتية التي تشهدها الصين والولايات المتحدة، وتحتاج الاستثمارات الخاصة إلى الأسواق، وينطبق هذا المنطق على شركة «هواوي» الصينية التي رسّخت نفسها في الأسواق الخارجية بقدر شركة «كوالكوم» الأميركية التي تحصل على ثلثَي عائداتها من الصين.تكسب شركات التكنولوجيا الأميركية العملاقة نصف عائداتها تقريباً من الأسواق الخارجية، ومن دون هذه العائدات، ستجد الشركات صعوبة في تمويل أبحاثها وتطوير مشاريعها تزامناً مع الحفاظ على تفوقها في المنافسة القائمة، ويمكن استعمال التقنيات التي تنتجها الشركات الأميركية وتستهلكها الصين لأغراض عسكرية وتجارية في آن، لذا قد يصبح اتكال الصين عليها ورقة ضغط تفيد الأميركيين، حيث تسعى بكين من جهتها إلى إضعاف هذه الورقة عبر زيادة اكتفائها الذاتي في قطاع التكنولوجيا، ومع تطور هذه الجهود ستخسر الشركات الأميركية التي يتكل عليها الجيش والاقتصاد الأميركي عائداتها، وسيواجه الابتكار الأميركي معاناة كبرى ما لم تجد الشركات أسواقاً بديلة عن الصين.نتيجةً لذلك، ستحتدم المنافسة بين شركات التكنولوجيا الأميركية والصينية خارج أسواقها المحلية وتشتد الجهود الحكومية في البلدَين لفرض درجة معينة من السيطرة على التكنولوجيا وتخفيف المخاوف الأمنية السائدة، وستُركّز الولايات المتحدة على الدول الحليفة الأكثر غنى في أميركا الشمالية وأوروبا وآسيا، أما الصين والهند، فمن المتوقع أن تُركّزان على المناطق الأكثر فقراً من آسيا والشرق الأوسط وإفريقيا، أو ربما أميركا اللاتينية، وإذا أهملت الشركات في الغرب وشرق آسيا هذه المناطق، فقد تنجح شركات التكنولوجيا الصينية والهندية وأي مؤسسات أخرى غير غربية في رسم معالم العولمة في عصر الاكتفاء الذاتي، ولن تكون هذه العولمة الجديدة مشابهة للعولمة القديمة، بل سترتكز هذه المرة على الاكتفاء الذاتي والانفتاح، وستستبدل سياسة التعاون الدولي بالنزعة القومية والمذهب التجاري ونسخة مشابهة للإمبريالية.لن يكون هذا العالم أكثر خطورة بالضرورة، ففي نهاية المطاف، يبقى مبدأ الاكتفاء الذاتي الذي تطبّقه الدول الكبرى دفاعياً في المقام الأول، وقد يؤدي إلى زيادة التحفظ العسكري والمنافسة الصناعية التي تفيد جميع الأطراف، لكن قد تتعلق أكبر المخاطر المحتملة بمحاولة القوى العظمى منع منافسيها من الوصول إلى الموارد، على غرار التهديد الذي أطلقته الصين في مناسبات متكررة لمنع الوصول إلى المعادن الأرضية النادرة التي تُستعمَل في عدد كبير من المنتجات المتطورة، كذلك، قد تحاول الدول الكبرى تخزين الملكية الفكرية أو منع انتشار التكنولوجيا عبر توسيع تعريف «الموارد الاستراتيجية» بشكلٍ مستمر كي يشمل كل ما يتعلق بتصميم شرائح الذكاء الاصطناعي مثلاً، إذ أقدمت الولايات المتحدة على خطوة مماثلة تجاه الاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة، مما أدى إلى تراجع الاقتصاد السوفياتي والحد من عمليات التجسس الصناعية السوفياتية الواسعة.يصعب أن تتكرر هذه الأحداث الدرامية بالطريقة نفسها، إذ يرتفع عدد اللاعبين المؤثرين اليوم خارج إطار الدول الثلاث الكبرى، ولا شك أنهم سيفضلون مبدأ عدم الانحياز التكنولوجي وقد ينجحون في إنتاج الابتكارات من تلقاء أنفسهم، كذلك، تحتاج الشركات التي تعتمد مبدأ الاكتفاء الذاتي إلى عائدات خارجية لدعم قواعدها الدفاعية والصناعية الخاصة، وقد تبدو هذه الفكرة متناقضة، لكنّ الاكتفاء الذاتي الذي يخدم العولمة بأفضل طريقة هو النهج القادر على التطور والازدهار.كتب المؤرخ الأميركي جورج لويس بير في عام 1917 أن «الاكتفاء الذاتي الاقتصادي يراعي ظروف الحرب»، فقد كان العالم في تلك الفترة يمرّ بأسوأ حرب شهدها التاريخ وقد اشتقت جزئياً من جهود الدول الكبرى لتجنب الاتكال على بعضها، وبعد مرور قرن من الزمن تقريباً، يتراجع احتمال تكرار هذه المأساة، ومع ذلك يجب أن تحذر الدول الكبرى التي تتوق إلى كسب الاستقلالية من المسائل التي تتمنى حصولها لأن الاتكال على الذات قد يكون مصدراً للضعف أو القوة.