وجهة نظر: نظام عالمي ينتهي وفوضى تبدأ
قد تكون الفوضى السياسية في أي دولة جزءاً من شخصيتها الاعتبارية التي لا تثير القلق بقدر ما تشكل نظاماً ثابتاً مبنياً على الفوضى، لكن الخطورة تكمن في انعكاس هذه الفوضى على انضباطية المجتمع ومشاركته في هذه الفوضى، وعادة ما يحدث ذلك في حالتين:الأولى، خروج الفوضى من أثرها السياسي المحصور في البيئة السياسية فقط إلى التأثير في حياة الناس، مما يدفع المجتمع للمشاركة في الفوضى من باب الخوف من انتشار أعراضها الضارة خارج محيطها السياسي، وهو ما يساهم في ازدياد الفوضى بدل إعادتها إلى محيطها.الثانية، إخراج السياسيين للفوضى من نطاقها المحدود عن قصد، وإشراك المواطن بها للاستقواء به ضد المنافسين، وهو نوع من المغامرة السياسية التي يقوم بها أصحاب المصالح الخاصة لتحقيق استفادة شخصية مؤقتة مقابل الإضرار بالعملية السياسية في المديين المتوسط والبعيد، وما يترتب على ذلك من أضرار اجتماعية.
ولعل المغامرة التي قادها الرئيس الأميركي السابق ترامب في إشراكه مجاميع ناخبة اقتحمت (الكونغرس) كان الهدف منها الاستقواء على منافسه، لكنها أحدثت شرخاً كبيراً في الجسد السياسي الأميركي، حيث حاول إخراج النظام الرسمي للدولة الأميركية من نظام ثابت مبني على الفوضى، إلى فوضى يمكن أن تؤثر سلباً في النظام الرسمي، وهي فكرة مخيفة في مجتمع هجرات كالمجتمع الأميركي الذي تعرض إلى العديد من الشروخ العنصرية وغير العنصرية في السابق.وعلى العكس من أنظمة الحكم الشمولية التي تعتمد في قوتها على أجهزتها الأمنية، فإن الأنظمة الديمقراطية تعتمد في قوتها على الإنسيابية والانضباطية السياسية وانشغال أفراد المجتمع بمهنيتهم دون التدخل بمهنية السياسيين، ولذلك فإن إضعاف الدول الشمولية يقوم على تدمير قوة أجهزتها الأمنية، في حين أن إضعاف الدول الديمقراطية يقوم على تدمير الانضباطية وإدخال المجتمع ضمن المشاركين في الفوضى. ويبدو أن بعض الديمقراطيات الكبرى قد قطعت أشواطاً متنوعة في طريق الفوضى، الأمر الذي انعكس سلباً على الديمقراطيات الصغيرة، فالولايات المتحدة دخلت الفوضى بقوة، وآخر عرابي هذه الفوضى كان الرئيس ترامب بنفسه، وفرنسا أيضاً قطعت شوطاً كبيراً بالاتجاه نفسه وبقيادة الرئيس كاميرون، في حين يبدو أن بريطانيا وإسبانيا وإيطاليا تسير نحو حالات قريبة من الحالتين الفرنسية والأميركية وبدرجات متفاوتة.والواضح اليوم أن تخريب الدول الشمولية يتم عبر إدخالها في الحروب واللا استقرار والفقر المقنن بإشراف بنوك ووكالات التصنيف المالي والثقافي العالمية والمنظمات الحقوقية والكيانات الاقتصادية والثقافية العابرة للقارات، وأما تخريب الديمقراطيات فيتم عبر الهبوط بالخطاب والسلوك السياسيين الى أدنى الدركات وإدخال المجتمع كشريك أساسي في هذا الهبوط.والمؤكد أن الماسونية العالمية هي الموجّه لكل ما سبق، حيث ترى ضرورة مرور العالم بمرحلة انعدام وزن تتراجع من خلالها قوة الدول الفعلية كخطوة أخيرة باتجاه سيطرة الحكومة العالمية على المفاصل الاقتصادية والعلمية والثقافية لكوكب الأرض، حيث تُمتَهن قوة الحكومات وقداسة الجغرافيا، لكن الخطوة الأخيرة بحد ذاتها ولوج إلى المجهول، حيث ستفاجأ الماسونية بعراقيل لم تحسب لها حسابا، لأن قوى الظل المحلية في كل دولة والتي تستمد قوتها من الإرث الشعبي، ستحاول القفز الى النور وملء الفراغ، وهذه القوى عادة تمثل ثقافة الانزواء القادم من الخصوصيات المحلية للمجتمعات، لتكون العائق الأكبر في وجه عولمة العالم.