شوائب استراتيجية «الارتباط المستمر» الأميركية
لن يكون طرح استراتيجية "الارتباط المستمر" والتخطيط لها وترسيخها وتنفيذها على جميع مستويات الحكومة والقطاعات والأوساط الأكاديمية عملية سهلة، لكنّ إقناع حلفاء واشنطن وشركائها بهذه الاستراتيجية تحت راية الأمن السيبراني الجماعي سيكون أكثر صعوبة، حيث يتعلق العامل الأساسي بتوسيع مشاركة الولايات المتحدة في النطاقات المحلية والعالمية معاً وإعطاء هذه العملية طابعاً دائماً ومتماسكاً.
ترتكز الاستراتيجية السيبرانية الأميركية الجديدة على مبدأ "الارتباط المستمر" وتشمل ركيزتَين أساسيتَين: أولاً، "الدفاع الأمامي" الاستباقي الذي يدعم الموقع الهجومي المتزايد للقيادة السيبرانية الأميركية ونزعتها إلى إطلاق العمليات في كل مكان وزمان، بما في ذلك عمليات حميدة واستباقية في العالم السيبراني وخارج الشبكات الأميركية؛ ثانياً، إدراك طبيعة المنافسة الاستراتيجية المتبدلة في الفضاء السيبراني، علماً أنها تبقى تحت عتبة الصراع المسلّح. تعتبر مقاربة "الارتباط المستمر" النشاطات السيبرانية الخبيثة جزءاً من حملات أكثر فاعلية وترابطاً، فلا تكون معزولة أو عرضية بل استغلالية وتراكمية. تم الإعلان عن استراتيجية "الارتباط المستمر" للمرة الأولى في عام 2018: إنه الخيار الذي طرحته إدارة ترامب بدل الاستراتيجية السيبرانية التي كانت موجّهة نحو الدفاع في عهد أوباما وارتكزت على ضبط العمليات ومقاربة ردع مبنية على المعايير.لا شك أن التغيرات الجذرية التي طالت الاستراتيجية الإلكترونية الأميركية ستؤثر في تعاون واشنطن مع اليابان وأستراليا، علماً أن الولايات المتحدة تتقاسم معهما التزامات عميقة في مجال الأمن الإلكتروني، وهذا التحول البارز يتطلب استئناف النقاشات حول نقل العمليات السيبرانية الشرعية من "المساحة الحمراء" إلى "المساحة الرمادية" لفرض تكاليف كبرى على المعتدين المحتملين، كما أنه يتطلب إعادة تقييم المؤشرات القائمة، كتلك المتعلقة بالتسويات، والكشف عن عمليات التسلل، وآثار البرامج الخبيثة، والحِيَل المعتمدة في مجال الهندسة الاجتماعية، على أن يحصل ذلك في سياق عمليات مشتركة وتقاسم المعلومات وبناء القدرات، ولتحقيق هذه الأهداف، ثمة حاجة كبرى إلى تحديد مصادر التهديدات بشكلٍ مستمر ورصد المخاطر القوية تمهيداً لتنفيذ عمليات استخبارية فاعلة وإطلاق تحركات أو ردود مناسبة.
يتعلق عامل مؤثر آخر بالثقة والشرعية، فقد تعتبر دول أقل قوة أن استراتيجية "الارتباط المستمر" مفيدة، في حين تشعر دول أخرى بالقلق من تداعيات العمليات الأميركية على شبكاتها وأنظمتها، بما في ذلك حلفاء واشنطن وشركاؤها، كذلك، يطرح غياب سياسة أميركية واضحة حول العلاقة بين العمليات الهجومية التي تطلقها القيادة السيبرانية الأميركية وسيادة الدول تساؤلات كثيرة حول حجم التوافق والقانون الدولي.تسعى الولايات المتحدة إلى إطلاق عمليات سلسة وفاعلة على مستوى العالم وتتابع تعطيل جهود الخصوم وإضعافها في الفضاء السيبراني، وقد يؤدي حضورها في مختلف جوانب العالم السيبراني إلى شرخ دبلوماسي قد يستنزف الثقة مع مرور الوقت، ويسهل أن يستغل الخصوم هذا الوضع لتحقيق المكاسب، فقد شدد مؤيدو مقاربة "الارتباط المستمر" في مناسبات متكررة على النهج غير التصاعدي في هذه الرؤية، لكنّ استبعاد احتمال تصعيد الوضع شبه مستحيل لأن المفاهيم أو الحسابات البشرية تبقى غير مؤكدة. ولتخفيف أي عواقب غير مقصودة والحفاظ على مستوى من الشفافية وحماية القدرة على توقّع التطورات، يجب أن تعيد الولايات المتحدة هندسة تدابير بناء الثقة كي تتماشى مع المنطق الكامن وراء استراتيجيتها السيبرانية الجديدة، حيث يتعلق احتمال مثير للاهتمام بالاقتراح المرتبط بتحديث الاستراتيجية الدولية للفضاء السيبراني في عام 2011 كي تعكس توسّع نطاق الصراع في "المنطقة الرمادية"، تزامناً مع التشديد على الدبلوماسية الوقائية لتبديد الاضطرابات أو حل سوء التفاهم. على المدى القصير والمتوسط، يجب أن تُعطى الأولوية لوضع إطار يسمح بالإبلاغ عن التطورات لتسهيل التبادل المتواصل للمعلومات، وعلى المدى الطويل، قد يؤدي التمسك بالسيادة في إطار القانون الدولي بناءً على سياسة أميركية واضحة وخاصة بالعمليات السيبرانية إلى تبديد الشكوك السائدة وتجنب التفسيرات الخاطئة.لن يكون طرح استراتيجية "الارتباط المستمر" والتخطيط لها وترسيخها وتنفيذها على جميع مستويات الحكومة والقطاعات والأوساط الأكاديمية عملية سهلة، لكنّ إقناع حلفاء واشنطن وشركائها بهذه الاستراتيجية تحت راية الأمن السيبراني الجماعي سيكون أكثر صعوبة، حيث يتعلق العامل الأساسي بتوسيع مشاركة الولايات المتحدة في النطاقات المحلية والعالمية معاً وإعطاء هذه العملية طابعاً دائماً ومتماسكاً.