المحسوبية أم «الصفوف الأمامية»؟
لا يختلف عاقلان على أن هناك أناساً بذلوا جهوداً جبارة وقاموا بأعمال استثنائية، مواصلين الليل بالنهار خلال فترة مواجهة «كورونا»، ضاربين أروع الأمثلة للتضحية النادرة، عبر مخاطرتهم بصحتهم وأعمارهم من أجل التصدي لوباء جديد مبهم، والمعلومات ناقصة عن كيفية انتشاره ومدى تأثيره وسرعة تفشيه وآليات انتقال عدواه، ومع ذلك كانوا في الطليعة غير عابئين بما قد يصيبهم... ولا يجادل أحد في أن هؤلاء يجب أن يكرموا مادياً ومعنوياً بمكافأة مجزية وسريعة، نظير هذه الشجاعة وتلك التضحية، لأنهم خاضوا، نيابة عنا جميعاً، معركة شرسة أمام عدو فتاك حماية للمجتمع والوطن.غير أن هذه الجهود وتلك المكافأة المجزية لا ينبغي، بأي حال من الأحوال، أن تتخذ ذريعة لفتح أبواب الهبات والعطايا والمكافآت على مصاريعها أمام الجهاز الحكومي الضخم الذي يريد استغلال كل فرصة من أجل الانتفاع غير المستحق، فهذا ما لا يرضاه منصف، لأن إقرار مثل هذا الاستغلال إنما يمثل ترسيخاً وتثبيتاً لثقافة باتت تنخر في عظم المجتمع، قوامها التنفيع والمحسوبية والانتهازية والاغتراف من المال العام بدون وجه حق، وكأنه غنيمة متاحة، يتصارع الجميع على اقتسامها، حتى تغدو في النهاية بين أنياب الماكرين ومخالب الدهاة، لا من نصيب العاملين المخلصين المضحين المستحقين.
القضية ليست متشابكة ولا معقدة، فبأدنى حسبة، فإن العدالة تقتضي منح مكافأة الصفوف الأمامية لأولئك الذين واجهوا المرض وعرَّضوا حياتهم للخطر، أما مَن داوموا في مقار أعمالهم أو من بيوتهم «أونلاين» بعيداً عن أي أخطار، فمكافأتهم قد تمت بالفعل بما صرفوه من رواتب نظير أعمالهم، وإذا كانوا قد داوموا أياماً إضافية فليأخذوا نظير هذه الأيام وفقاً لما يقتضيه قانون العمل، أما أن يتم إقحامهم في عمل لم يقوموا به، وأن يصنفوا ضمن طليعة «الصفوف الأمامية» التي واجهت المرض، فهذا خلط وتنفيع وكذب وانتهازية... ومنح عطايا وهبات ممن لا يملك لمن لا يستحق.على الحكومة أن تعلم، وهي تقر تلك المكافآت للمستحق وغيره، أن المسألة ليست مجرد تقسيم أموال وستنتهي القصة، بل عليها أن تضع في حسبانها أنها أمام تحَدٍّ كبير تضرب فيه مثالاً للجدية والكفاءة والإنصاف في توزيع مقدرات الوطن وخيراته، فهل يكون ميزانها منصفاً، أم ستسير كما عودتنا بميزان مختل يساوي بين المجتهد وغيره، والكل لديها سواء، ضاربة بمبدأ العدالة عرض الحوائط كلها؟! ننتظر من الحكومة مفاجأة سارة، على غير عادتها، بحيث تشعر أولئك الذين ضحوا وتعبوا وتصدوا للأخطار، بأنهم مقدرون ومميزون، لا أن تقحم معهم غير المستحقين... فإذا أمضت ما تقتضيه العدالة فنقطة تسجل لها في سجل الإنصاف، وإلا «لا طبنا ولا غدا الشر».