تلك البسمة القاتلة *
مر زمن لم تحسب هي أو هو عدد دقائقه، ساعاته، أيامه، شهوره أو سنينه، هو في مكان وهي توزعت بين الأمكنة حتى أنها كانت تستيقظ كل صباح وتبقى في سريرها للحظات لمعرفة خريطة المكان وتجيب عن الأسئلة قبل البدء بروتينها اليومي الذي لا تغيره الأمكنة ولا الأزمنة، السؤال الأول: "في أي مدينة أنا" ربما الأصح في أي غرفة فندق؟ صدق هو عندما شبهها منذ أكثر من ثلاثة عقود بالنورس، ما إن يحط على موجة حتى يحلق عاليا ويعود لموجة أخرى، لم يكن عرافاً بل صحافيا بدرجة امتياز معلما في "كار" الصحافة، بل ربما وصفه بالصحافي تقصير بحقه، فكان ينقش الأحرف لتتحول إلى حركة وجمل وتعابير على المسرح وكتب الشعر والأدب المحكي و... و... كما كثيرين في بلدي بل بلادنا الواسعة، يبقى متعددو المواهب مخفيين أحيانا عن الأنظار في زمن التسطيح والتطبيل والرداءة في كل شيء. منذ أشهر وفجأة دون مقدمات جاءت رسالة مختصرة منه "طمنيني عليك..." وما هي إلا أقل من دقيقة وكانت هي الفاتحة لسيل من الذكريات والمواقف والأحاديث والمكالمات والصور والابتسامات والضحكات بل حتى الحركات والالتفاتات و... و... مر هو عبرها سريعا وكأن مجرى ماء قد فتح ولم يعد بالإمكان وضع فاصلة أو نقطة فقط، بعض الصمت المتقطع حتى عدنا لتفاصيل أيامنا وتوقفت الرسائل إلا للسؤال المتكرر "فقط طمنيني" وهو السؤال الذي أصبح الأكثر تكراراً بين كل الأصدقاء البعيدين والقريبين وخصوصا منهم ومنهن الأصدقاء المعتقين فينا.. أولئك الذين كانوا جزءا من مرحلة ضمن مشوار ازدحمت به الأحداث والصور واللحظات الحميمة التي بدأت تخف تدريجيا، ربما بسبب التقدم في العمر أو التحول حولنا الذي أرجعنا سنين ضوئية إلى الخلف بعد سنين من العمل الشاق لتغيير واقع انتصر علينا ولا يزال يبقينا في عزلتنا عن عالم آخر أكثر تقدماً علميا وحضاريا واجتماعيا وتعليميا.امتناعه عن الكتابة لم يكن يقلقني ولكن توقفه عن التغريدات التي كانت سببا للعديد من المشاكل له.. هو الذي لم يتعود أن يهجن فكره وعقله في زمن كتم الآراء أو تحويلها وتحويرها، عندما سألته عن سبب توقفه، جاء رده حزينا لا يشبه تفاؤله الذي اعتدناه، قال "لن أكتب ليس خوفا بل قرفا من ملامسة هؤلاء"! عدوى قرفه قد طالت الكثيرين والكثيرات منا، بعضهم أو بعضنا تجاوزها باستعادة الإحساس بالمسؤولية حتى لو كان هذا الآخر إحساسا كاذبا أو غير واقعي على أقل تعبير، يتمسك فيه بعضنا خوفا من الإغراق في عتمة اللحظة أو الكآبة أو ربما لتبرير الذات مما سيكتبه أحدهم يوما ما حين يسجل التاريخ الشفهي لهذه البلاد أننا لم نسجل أي احتجاج أو لم ننبه، نحذر بلساننا أو كتاباتنا وهذا أضعف الإيمان!
بين الفينة والأخرى تقفز رسائله على الهاتف بين المئات الأخرى، لا يتوقف عن مفاجأتي بذاكرته التفصيلية والصورية أيضا حول السنوات الأولى أو يذكرني بدروس كان يقدمها لنا نحن القادمات والقادمين الجدد إلى مجال الصحافة، تلك الفئة التي حملت أحلامها في كف وفي الكف الأخرى روح المغامرة، تلك المجموعة التي تصورت أنها ستحرر ناسها وأهلها من واقعهم.. هو كان يضحك طويلا عند سماع سرد تلك المجموعة الجالسة فوق سحابة بيضاء في سماء لا تزينها إلا الكواكب والنجوم فلا غبار ولا تلوث يحول مجرد رؤية سماء صافية إلى حدث علينا أن نؤرخه ضمن ذكرياتنا المتهاوية. في أحدها وكان في وضع نفسي متألق أو ربما في حالة شجن، سجل لحظات بعينها وتوغل في عوالمها حتى الوصول إلى وصف الأجواء وتفاصيل الأمكنة والشخوص حتى تفاجأت من دقته وغزارة التفاصيل ناسية ربما أنه الكاتب المسرحي الأهم.. وبين تلك التفاصيل وصفه لأحد اللقاءات الأولى التي قال إنه لن ينساها أبدا عندما كنا خارجات بشكل جماعي من ذاك المبنى الذي جمع أكثر من صحيفة، صحافيات صغيرات كل منهن محملة بأحلام لا سماء لها ولا حدود، نادى هو "مرحبا" التفتت هي "لابسة بسمتها القاتلة" كما وصفها، حينها توقفت العصافير عن التحليق والعربات عن التزمير والبشر عن الحديث ولا حتى الهمس.. فقط ابتسامة بقيت معها حتى الآن رغم التجاعيد وخطوط الزمن كل منها يسرد تجربة.* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية