ظن القاتل أنه يستطيع الإفلات من قبضة العدالة، وأن سر مذبحة الطابق الخامس سيظل في طي الكتمان، إلا أن الرياح جاءت بما لا تشتهي السفن، وتوصلت التحريات إلى خيوط جريمة قتل الزوجة وأطفالها الثلاثة في وقت قياسي، وتبيَّن لرجال الأمن أن منفذ الواقعة ترك خلفه دليل إدانته، ورغم إيهامه بأنه حادث سطو من شخص مجهول فإنه لا توجد جريمة كاملة، ودائماً هناك خيوط تفضي إلى الفاعل الحقيقي.تفاصيل الجريمة المروعة، جاءت طبقا لما ورد في تحريات وتحقيقات الأجهزة الأمنية والقضائية، وبمعاينة مسرح الجريمة، لم يُستَدَل على وجود اقتحام من خارج الشقة، ودخل الطبيب القاتل إلى دائرة الاشتباه، وبمواجهته بأقوال الشهود تهاوت أركان خطته الشيطانية، واعترف بارتكابه تلك المذبحة بحق زوجته وأطفاله، وظهر أثناء التحقيق معه في حالة تثير الدهشة من الهدوء الشديد، كأنه غير نادم على جريمته، ولا تبدو عليه علامات الاضطراب العقلي والنفسي.
وأراد المتهم أن يبرر جريمته البشعة بقتل زوجته لشكه في سلوكها، وتوهمه أنها تخونه مع شخص آخر، وظل يخطط لشهور طويلة للتخلص منها، دون أن تطاله أصابع الاتهام، وبعد خداعها باللعبة السادية، وتمكنه من قتلها دون مقاومة منها، اتجه إلى غرفة أطفاله الثلاثة، وأزهق أرواحهم بزعم أنه سيخلصهم من العار الذي سيلاحقهم في حياتهم.
محادثة هاتفية
وقعت تلك الجريمة المروعة في نهاية عام 2018، وكان أهالي "حي سخا" بمحافظة كفر الشيخ المصرية (شمالي القاهرة) يستعدون لقضاء ليلة رأس السنة الميلادية، وتزينت واجهات المنازل بزينة أعياد الميلاد، وتلاشت أجواء البهجة داخل البرج السكني رقم 4 بعد العثور على جثة الطبيبة منى السجيني (30 عاما)، وأطفالها الثلاثة عبدالله (10 سنوات)، وعمر (7 سنوات)، وليلى (4 سنوات) مذبوحين في حجرهم، والدماء تغطي الأرضية والجدران.قبل أيام من وقوع تلك المذبحة، تأهب أحمد للذهاب إلى عمله، وقامت زوجته لتعد طعام الإفطار، وبالمصادفة رأى هاتفها المحمول على حافة المنضدة، ودفعه الفضول ليعرف محتواه، واكتشف محادثة جرت بينها وبين رجل آخر على تطبيق "واتساب" فبَيّت النية على قتلها، وخَطط لأن تكون جريمته بطريقة لا تثير الشبهات حوله، وانتظر الفرصة المناسبة لتنفيذ فكرته الشيطانية.ظلّت رغبة القتل والانتقام تدور في ذهن الجاني، فأعدّ لذلك "قُفَّازاً" اشتراه من القاهرة قبل ارتكاب جريمته بأربعة أيام وأخفاه بالمنزل، وأعدَّ معه لاصقاً بلاستيكياً، وأداتين حادتين تُحدثان القتل (سكين وحَبْل)، وفي اليوم السابق على الحادث، رسَم خطّة التنفيذ وخطّة إبعاد الشُبهة عن نفسه من ثلاثة محاور، أولها: اتصاله بزميلته في العمل الطبيبة إسراء، لتتواجد بدلاً منه في اليوم التالي (ليلة رأس السنة)، وهو التوقيت الذي اختاره لتنفيذ جريمته، ليتذرَّع بأنه كان موجوداً في عمله.اعترافات القاتل
وأدلى الطبيب المتهم باعترافات تفصيلية عن جريمته، وقال إنه في منتصف اليوم المُحدَّد، وبعد أن تناولا طعامهما، عرض عليها اقتراحه "السادي"، ووافقتهُ من دون تفكير، فكبَّل يديها خلف ظهرها باللاصق، وكذلك فعل بساقيها، وتمكَّن بهذه الوسيلة من شَلِّ مقاومتها، وجاء بحَبل السِّتارة الذي أعدَّه لهذا الغرض ولفَّه حول عنقها وخنقها به فخارت قواها، فلما فقدتْ الوعي جرها من غرفة النوم إلى الصالة وارتدى القفاز الذي أعدَّه سلفاً حتى لا يترك أثر بصماتٍ، ونحرها بالسكين قاصداً إزهاق روحها، فأحدث بعنقِها جرحاً ذبحياً عميقاً أودى بحياتها.وفي الزّمان والمكان ذاتهما، دلف في حالة اطمئنان نفسٍ وهدوء خاطر إلى غرفة أطفاله الثلاثة، (ليلى وعُمر وعبدالله) وخنق ليلى بالحبل فلم تمُت فوراً، فحملها برباطة جأش وسَجَّاها بجوار أمها ونحرها بالسكين حتى لفظت أنفاسها الأخيرة، وعاد إلى الغرفة بذات الهدوء والتصميم واطمئنان الخاطر فنحر عُمَر، ثم نحر عبدالله بذات السكين من دون تأثر أو انفعال، فأحدث بهم جميعاً جروحاً ذبحية بمقدم أعناقهم أدَّت إلى موتهم.وشرع الجاني في تنفيذ باقي أجزاء خطته الإجرامية، ليفلت من العقاب، وقام ببعثرة محتويات دولاب زوجته، وأخذ مصوغاتها الذهبية، ليُوهِم بأنَّ القَتل من مجهولٍ بدافع السرقة، ووضعها في كيس بلاستيكي مع السكين والحبل والقفّاز وسُترة ابنتهِ الملوثة بدمائها، واستقل سيارته هادئاً مطمئناً ساكن الحواس قاصداً النجَّار ليصطحبه معه، لإنهاء بعض التشطيبات في شقة أخيها الذي يتأهب للزواج قريباً. وباءت مروءته الزائفة بالفشل، حين اعتذر النجار عن الذهاب معه، وتعثرت خطته بزعم اكتشافه القتل بعد أن رجع من شقة صهره، فتوجّه إلى أحد البنوك بالمدينة، وتحصَّل على إيصال مُعد لحجز دور في تعامل بنكي؛ ليوهِم بتواجده داخل البنك ساعة القتل، وبعدها استقل سيارته إلى الطريق بين "كفر الشيخ والمحلة"، وحين اطمأن أنه غير مراقب، أخفى الكيس الذي يحوي أدوات الجريمة بين أعواد الحشائش، وعاد مرة أخرى إلى مسرح الجريمة.وأغلقت دائرة الانتقام حول القاتل، وبات شبح جريمته يطارده، وحين توقف بالسيارة أمام مسكنه، استقل المصعد إلى الطابق الخامس، وفتح باب شقته، ونظر إلى ضحاياه دون أن يبدي أي انفعال، وهبط مرة أخرى، ونادى على حارس العقار، وتعالت صرخاته، ليوهم جيرانه بأنه عاد لمنزله واكتشف ذبح زوجته وأبنائه الثلاثة، وإمعاناً في الإيهام ببراءته من دمهم رطم رأسه في الحائط أمامهم، وأبلغ أمه وخاله وأخيه وحماته بفاجعته المزعومة.وأسفرت تحريات الشرطة عن أدلة تثبت أنه المتهم الأول، فأقر تفصيلاً بارتكاب الواقعة، وأرشد رجال المباحث إلى مكان وجود الكيس بالطريق العام بين الحشائش، فتم ضبطه بما فيه من أدوات الجريمة، وجرى تحويل المتهم إلى النيابة العامة، واعترف في التحقيقات بأنه قتل زوجته وأطفاله، لشكه في سلوك المجني عليها، وتم حبسه على ذمة القضية.وانهارت شكوك الطبيب حول سلوك زوجته، عقب التحريات السرية التي قام بها ـ آنذاك ـ رئيس قسم المباحث الجنائية بكفر الشيخ، مع فريق من ضباط إدارة البحث الجنائي، ودلته على أن المتهم قد توهَّم على غير الحقيقة منذ 6 أشهر سابقة على الحادث أن المجني عليها على علاقة غير شرعية بشخص آخر.وتتابعت تفاصيل مذبحة "البرج رقم 4" من واقع تحقيقات المباحث الجنائية، أن المتهم قتل زوجته وأطفاله الثلاثة عمداً مع سبق الإصرار بأن عقدَ العزم وبيَّت النية على قتلهم، فأحدث بهم الإصابات الموصوفة بتقرير الصفة التشريحية والتي أودت بحياتهم.أقوال الشهود
وانتشر خبر جريمة الطابق الخامس في أرجاء مدينة كفر الشيخ، وأدمت قلوب أسرة وجيران الضحايا، واتجهت الأنظار ناحية البرج السكني رقم 4، وخيّم الحزن على سكان حي "سخا" غير مصدقين أن تنتهي حياة أسرة كاملة على هذا النحو المأساوي، وأصابهم الذهول حين أشارت أصابع الاتهام إلى زوج الضحية ووالد الأطفال الثلاثة، وأنه أقدم على قتلهم، واستسلم لفكرة الانتقام، من دون وازع من رحمة، وتجرد من آدميته بإزهاق أرواحهم.وجاء في أقوال حارس العقار الموجودة به الشقة التي شهدت الجريمة، أنه أبصَر الطبيب يعود إلى مسكنه، وبعدها بنحو 15 دقيقة، عندما كانت الساعة الواحدة والنصف مساء تقريباً، حضر إليه في غرفته، ليخبره أنه وجد زوجته وأطفاله الثلاثة مذبوحين داخل الشقة فصعد معه إلى الطابق الخامس، وفتح المتهم الباب بمفتاحه، فأبصر الزوجة وبجوارها طفلة مقتولتين في صالة المسكن ومن حولهما دماء غزيرة، فأصابه الفزع، ولم يَقوَ على الدخول إلى الشقة. وشهد أحد سكان العقار بأنه خرج من مسكنه في الساعة الثانية و25 دقيقة مساء، وأثناء استقلاله المصعد نازلاً لقضاء بعض مصالحه، توقَّف المصعد بالطابق الخامس الذي يسكنه المتهم، وفوجئ بالأخير يصرخ ويُخبره بأن أبناءه قد ذُبحوا وراح يرطم رأسه بالحائط.واستدعت النيابة الطبيبة إسراء، زميلة المتهم بالوحدة الصحية، وذكرت في أقوالها، أنها تتناوب العمل معه في الوحدة الصحية لمدة ثلاثة أيام، ولكنها تواجدت في مقر عملها لمدة يومين، وكان من المقرر أن يأتي المتهم في اليوم التالي وحتى نهاية الأسبوع، وفوجئت أنه يتصل بها هاتفياً ثلاث مرات يطلب منها الحضور بدلا منه في اليوم التالي، فاستجابَت لطلبه ووقَّعَت له في دفتر الحضور باسمه على نحو ما جرى عليه العُرف.القصاص العادل
وبعد مواجهة المتهم بأقوال الشهود، اعترف بجريمته، واقتيد من محبسه إلى المحكمة وسط حراسة مشددة، وقال الدفاع الحاضر معه إن موكله كان يعاني اضطراباً نفسياً بسبب شكه في سلوك زوجته على إثر المحادثة التي رآها على هاتفها بينها وبين رجل آخر، ودفع ببطلان تحقيقات النيابة العامة لعدم حضور محام معه في أثناء التحقيق، وطلب مراعاة ظروف المتهم باعتبار أنه كان يخشى أن يُوجّه له المجتمع اللوم بسبب سلوك زوجته، ومراعاة أن قتله أطفاله كان سببه ألا يلحق بهم عار ذلك السلوك.وقررت المحكمة أن المتهم في كامل قواه العقلية والنفسية، وفي حالة من الوعي والإدراك السليم، ويتحدث بتعقُل واتزان، ولا يَصدُر منه أي تصرفات شاذة أو غير مُتوقَّعة، وتسَلسُل الحديث عنده مترابط، ولا يوجد بحديثه أي أفكار متطايرة، وأنه أفاد بأنه لا يُعالج من أي أمراض عامة، أو أي أمراض نفسية أو عصبية، ولا يتعاطى أي عقاقير طبية أو مخدِّرة، وهو ما أيَّده تقرير المعمل الكيماوي بصدد البحث عن مدى تعاطيه أيٍ من تلك المواد.ولم يقدِّم دفاع المتهم خلال التحقيقات؛ ولا أثناء جلسات النظر في تجديد أمر حبس الطبيب المتهم على ذمة القضية، ولا خلال جلسة المحاكمة، أي أوراق طبية أو غيرها تثبت إصابته باضطراب نفسي أو مرض عقلي.وفي بداية مارس 2019، قررت محكمة جنايات كفر الشيخ، إعدام الطبيب أحمد عبدالله زكي، المتهم بقتل زوجته وأطفاله الثلاثة. وجاء في حيثيات الحكم أن المحكمة رأت بإجماع آراء أعضائها وجوب القِصاص من المتهم حقاً وعدلاً، ومعاقبته بالإعدام، امتثالاً لقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى»، «وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»، (الآيتان 178، 179 من سورة البقرة).واستطلعَت المحكمة رأي فضيلة مُفتي الجمهورية المصرية بشأن المحكوم عليه، نفاذاً لحكم المادة "381/ 2" من قانون الإجراءات الجنائية، فأودعَ فضيلته ملف الدعوى تقريراً مُؤدَّاه استحقاق المتهم الإعدام قصاصاً لقتله المجني عليهم منى محمد فتحي السجيني، وأطفاله الثلاثة ليلى وعُمَر وعبدالله عمداً، جزاءً وِفاقاً، إذ القتل أنفى للقتل.وكانت المحكمة انتهت إلى ثُبوت الواقعة قِبَل المتهم، وقضَت بإدانته عنها، واستقر في حكمها أن تُجيب المدعين بالحق المدني إلى طلبهم عملاً بالمادة 309 من قانون الإجراءات الجنائية المصري، مع إلزامه مصاريفها شاملة أتعاب المحاماة عملاً بالمادة 320 من القانون سالف الذكر، وأسدل الستار بتوقيع أقصى العقوبة على الطبيب قاتل زوجته وأطفاله الثلاثة.