على امتداد التاريخ البشري، وفي كل مجتمع من المجتمعات، كانت هناك فئة من المفكرين والفلاسفة والكتّاب والفنانين، الذين قدّموا نتاجاً فكرياً فلسفياً أدبياً وفنياً لافتاً وملموساً ومُتصفاً بالاستمرارية والتجدد، وهذا ما أعطاهم مكانة تؤهلهم لمخاطبة وقيادة الوعي الشعبي، والتأثير به، وربما تشكيل جزء كبير منه.لكن أحد أهم تجليات العولمة الثقافية أنّها حاربت هذه الظاهرة بامتياز، وعصفت بفكر وفلسفة وإبداع أولئك الثِقال المؤثرين وفي مختلف المجالات، وأعطت الجميع، جميع البشر، على اختلاف مكانتهم العلمية والعملية ووعيهم، وانتماءاتهم العقائدية، أعطتهم فرصة سهلة ومغرية لقول كلمتهم، ونشر تلك الكلمة عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
وشيئاً فشيئاً، أخذ المشهد الفكري والفلسفي والإبداعي الإنساني بالتغيّر لمصلحة ممارسة الفئة الجديدة، فلقد أذاب حمض العولمة المركّز وخفف من أثر الفكر المتخصص والعميق والقادر على تفسير ظواهر المجتمع، لمصلحة فكر العامة المسطّح.أزاحت العولمة فكر النخبة لمصلحة فكر العامة، وصار جدّ مألوف أن تجد متابعي حساب أي نجم من نجوم شبكات التواصل الاجتماعية يفوق بمرّات عدد متابعي حسابات المفكرين والفلاسفة والمبدعين. ومع زيادة انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، وغزو التليفون الذكي لمختلف مجتمعات الدنيا، تكرست الظاهرة، وصارت جمل وعبارات وصور "فيسبوك" و"تويتر" وحتى "إنستغرام"، هي الأقدر على استقطاب الرأي العام والتأثير فيه، وربما تشكيله!إن قياد المفكرين والفلاسفة والمثقفين للرأي العام، كان ينطلق من مواهبهم الأصيلة ومن عطائهم المشهود، ومن اصطفافهم إلى جانب القضايا الإنسانية، والوقوف بحزم في وجه ممارسات الأنظمة المتعسّفة، وكان لتلك المواقف أثمانها وتأثيرها.لكنّ صوت أيّ من هؤلاء، في وقتنا الراهن، وبقدر ما يكون لافتاً ومختلفاً، فهو سيأتي ضمن عدد لا يُحصى من الأصوات، التي تنبعث على مدار الساعة وفي كل مكان، مما يعني أن تأثير هذا الصوت سرعان ما يذوب في نهر وضجّة الأصوات الحاضرة، وهو ما يترتب عليه قلة تأثير المفكرين والفلاسفة والمثقفين في قياد الرأي العام، الذي صار ينقاد لآلة الإعلام الأكبر، عبر محطات فضائية تبثّ موادها ليل نهار، وعبر هدير مواقع إلكترونية تجدد مادتها دون توقّف!إن أجيالاً من البشر، وتحديداً من فئة الشباب، وفي كل مكان، صارت تستقي معلوماتها وقدوتها ممن لا معلومة علمية عنده، وممن لا يصلح أصلاً لأن يكون قدوة.مجاميع تُقدّر بالملايين من المراهقين والشباب صارت تركض وراء أعلام ونجوم الميديا، ووراء أعلام ونجوم شبكات التواصل، وما كان لهذا الأمر أن يكون لولا أنّ العولمة الثقافية وفّرت الفرصة لهؤلاء، وخلقت منهم نجوماً لامعين، نجوماً لا يمتلكون من النجومية إلّا لمعتها الكاذبة، ولا يركنون في سلوكهم إلا للسطحية ولا شيء غير السطحية، لذا انعزل أصحاب الفكر وأصحاب العلم في عالمهم الحقيقي، وصاروا أبعد ما يكون عن وصلٍ بقواعد شعبية، ورأي عام عريض.ويمكن قياس ذلك على مختلف شؤون الفكر والإبداع، في الفلسفة وفي الفنون، وفي الآداب، حيث تكاد تختفي طبقة الصناع المهرة، الذين يستندون للعلم والفكر والدراية والخبرة، لمصلحة نجوم تعمل آلة الإعلام لتلميعهم والصعود بهم إلى مراكز أعلى بكثير من حجمهم ووعيهم الفكري والإنساني! لقد كرّست العولمة ظاهرة "النجم الخفيف"، نجوم لا يمتلكون من حقيقة النجومية وثقلها سوى لمعتها الخارجية الكاذبة وخفّتها العابرة! وانهمكت آلة العولمة في تزويق وتلميع وتشكيل هؤلاء الخِفاف، وإضفاء هالة النجومية من حولهم، دافعة بهم إلى الواجهة، نجوم خفاف لامعين، ينطقون بلسان اللحظة وباهتمام اللحظة، وبخفّة اللحظة، وبما يقدّم إيهاماً بأنّهم قادة فكر وإبداع، ومما يجعل سواد أعظم من الناس ينجذبون لهؤلاء الخِفاف، ويسعون للتعرف إلى عوالمهم، وسرعان ما يسيرون خلفهم.إذا كان الفيلسوف زيجمونت باومان Zygmunt Bauuman قد وصف اللحظة الإنسانية التي نحيا بأنها "حياة سائلة"، فإنّ نجوماً خفافاً هم وحدهم من يستحقون أن يطفوا على سطح نهر هذه اللحظة الإنسانية السائلة!
توابل - ثقافات
سلطة النجم الخفيف!
05-05-2021