بين الصين والولايات المتحدة صراع حضارات أم محاولة لفرض الهيمنة؟
ها قد وصلنا أخيراً إلى صراع الحضارات الشامل الذي نسمع عنه دوماً، أو هذا ما أراد الرئيس جو بايدن إقناع الناس به في خطابه خلال جلسة مشتركة في الكونغرس، إنه صراع بين الولايات المتحدة والصين، وبين الغرب والشرق، وبين الديمقراطية والاستبداد، فركّز خطاب بايدن في الأسبوع الماضي على تحديد وضع واشنطن خلال صراع هذا القرن.حين كان بايدن نائب الرئيس الأميركي، لطالما شكّك في أوساطه الخاصة بالفكرة القائلة إن الصين والحزب الشيوعي الذي يحكمها قد ينجحان يوماً في منافسة واشنطن، وكانت الولايات المتحدة برأيه تملك نظام حُكم أعلى مستوى من غيرها، وتتمتع بِحِسّ قيادي هائل في مجال القوة الناعمة والصلبة، وتحظى بدعم نظام لا مثيل له من التحالفات العسكرية والاستخبارية العالمية، لكن من الواضح أن بايدن غيّر رأيه، وهو يسعى الآن إلى إقناع الآخرين بخطورة الوضع وحصد الإجماع وسط صانعي السياسة الأميركية، وهو هدف فشل أسلافه في تحقيقه للتعامل مع التحدي الصيني. لقد تغيرت الصين بدورها، ولم يقتنع المسؤولون في النظام الأميركي بهذا الواقع إلا في مرحلة متأخرة.أصبحت الصين اليوم أكثر غنى وقوة مما كانت عليه وطوّرت قدرات عسكرية تسمح لها بتحقيق الأهداف التي يرغب فيها الحزب الحاكم منذ وقت طويل، فبدأت بكين تستولي على بحر الصين الجنوبي، وتفرض ضغوطاً متواصلة على اليابان في بحر الصين الشرقي، وترسل سفنها وطائراتها بوتيرة متسارعة إلى مياه تايوان ومجالها الجوي، وتحارب الهند على حدودها الغربية.
وفق معظم التحليلات المرتبطة بالصين، يبدو الرئيس شي جين بينغ، الذي وصل إلى السلطة في نوفمبر 2012، المحرك الوحيد للتغيير السياسي الحاصل في الصين، لكنّ هذا التحليل لا يعبّر عن الحقيقة كاملة، ولا شك أن شي جين بينغ هو زعيم قوي ومستعد لأخذ المجازفات أكثر من أسلافه، لكنه يملك القوة العسكرية والدبلوماسية لفعل ذلك، على عكس القادة الذين سبقوه، كذلك، واجهت الولايات المتحدة حالة من الفوضى العارمة في عهد شي جين بينغ، وقد شدّد بايدن شخصياً على هذه النقطة.على صعيد آخر، يبدو أن الصين في عهد شي جين بينغ تريد تحقيق أهدافها في أسرع وقت، هذا ما ذكره تقرير نشرته صحيفة "فاينانشل تايمز" في الأسبوع الماضي ومفاده أن الإحصاء الرسمي للسكان في السنة الماضية سجّل تراجعاً في العدد السكاني للمرة الأولى منذ المجاعة الكبرى التي اجتاحت البلد في أواخر الخمسينيات، وأنكرت بكين المعلومات الواردة في ذلك التقرير، وأعلنت أن الإحصاء الرسمي الذي تأخر صدوره لأكثر من شهر سيكشف أن العدد السكاني لا يزال في طور التصاعد.بغض النظر عن حقيقة الأرقام في وقت صدورها، من الواضح أن عدد السكان الصينيين في سن العمل بدأ يتراجع منذ الآن، وبدأت الصين تُخفف ضوابط سياسة الطفل الواحد في عام 2013، لكنها لا تستطيع فعل الكثير لوقف تراجع العدد السكاني. مع ذلك، من الأفضل أن يحذر المسؤولون من الفكرة القائلة إن "التركيبة السكانية تُحدد مصير الدول". قد تعطي هذه الفكرة الأفضلية للولايات المتحدة ظاهرياً، لكن تقتصر نسبة السكان الصينيين في عمر الخامسة والستين وما فوق على 13% مقابل 28% في اليابان، و16% في الولايات المتحدة، و19% في بريطانيا. بعبارة أخرى، لن يكون السكان الصينيون مسنّين بقدر سكان اليابان اليوم قبل عام 2050، وفق إحصاءات شركة الاستثمارات الأميركية "ماثيوز آسيا".تحمل المنافسة القائمة بين الولايات المتحدة والصين جوانب متعددة، منها التجارة، والاقتصاد، والقوة العسكرية، والوضع الجيوسياسي، والإيديولوجيا. تتوقف أهمية العامل السكاني على مجالات المنافسة التي احتدمت بدرجة غير مسبوقة في السنوات الأخيرة، لا سيما في قطاع التكنولوجيا وتطبيقاتها في أنظمة التسلح والصناعة.لم يُعدّل شي جين بينغ السياسة الاقتصادية الصينية بناءً على مبدأ الاتكال على الذات في مجال التكنولوجيا فحسب، بل إنه يسعى إلى فرض الهيمنة الصينية في بعض المجالات لزيادة نفوذ بكين وتأثيرها على الدول الأخرى، وتحاول الولايات المتحدة من جهتها أن تحافظ على تفوّقها في المجالات التي تبرع فيها أو تتعاون مع دول أوروبية وآسيوية صديقة تتفوق عليها وعلى الصين في قطاعات استراتيجية.كان بايدن محقاً حين قال: "الظروف تتغير بسرعة فائقة"! ومن الواضح أن شي جين بينغ يوافقه الرأي.