من الطبيعي أن يفاخر أي مواطن بتاريخ أجداده ومؤسسي دولته أو إقليمه أو ما شابه، فتلك نزعة بشرية فطرنا عليها جميعاً وهي حميدة ولا بأس بها بحدود المنطق والعقل طبعاً دون التعالي على الآخر والوصول إلى حد الثمالة من انتصارات تاريخية وإنجازات غابرة وهمية كذلك، ولكن من الطرائف دائماً أن يتناسى المرء حقيقة مهمة وهي أن التاريخ في الواقع يكتبه الأقوياء ويزخرفه ويجمله الأحياء كذلك، فهذا شيء موجود ولا يمكن لأحد أن ينكره على مر العصور والأزمنة، كذلك من المهم أن نعرف أن المجتمعات تتغير بصورة ديناميكية غير ثابتة وتكون في صراع مستمر لتلد لنا مجتمعات أكثر تطورا تقوم على رفات سابقيها كذلك، هذا الصراع والشد والجذب دائماً ما يكون حاضراً وحقيقياً ومبنياً على النزاع الاقتصادي-الاجتماعي، ولا يمكن لأحد أن ينكره فهو يولد من رحم معاناة الشعوب. في حقيقة الأمر، نحن ما زلنا اليوم نتعايش داخل إحدى صور تلك الصراعات أيضا، وعلى شكل صراع طبقي مقيت بين من يملك (برجوازي طفيلي أصبح يقتات من تحكمه برأس المال وتبعات هذا الأمر) ومن لا يملك (كادح عامل يبيع مجهوده الذهني ويتمنى أبسط حقوقه وأساسيات حياته)، والتاريخ الكويتي وبالأخص ذاك الاقتصادي الاجتماعي فيه من الدلالات والشواهد الكثيرة التي تفسر لنا حاضرنا، وكذلك تنبئنا بمستقبلنا والقادم من أيامنا على أساس صراع الطبقات الحقيقي والواقعي في المجتمع، فقد تكلم الكثير في السابق عن تاريخ الأجداد والآباء الأولين، وهو لعمري أمر يعتبر مدعاة للفخر والرفعة سواء كانوا من أهل الحاضرة أو البادية أو حتى أهل القرى (باللهجة العامية: القروية)، فقد سطروا ملاحم تاريخية في النضال والكفاح إلى أبعد الحدود لتوفير عيش كريم لأهاليهم وذويهم، ولكن في الرجوع إلى تاريخ الطبقة العاملة وتشكلها في الكويت تحديداً، الطبقة الكادحة البروليتارية بالمجتمع، نجد أن التاريخ قد أهمل بدايات نشأتهم ومعاناتهم الحقيقية، وبالتركيز على الشق الاقتصادي الأكثر ازدهارا في الكويت في حقبة ما قبل النفط و(فتح الحنفية الريعية) للذهب الأسود وهو اقتصاد ركوب البحر بالأخص لصيد اللؤلؤ، نجد القلة القليلة هي من تتكلم وتؤرخ لنا حقيقة الحياة والصراع الطبقي آنذاك، والذي كان أقرب ما يكون عملاً بالسخرة والعبودية على أن يكون عملا ينجم منه دخل (محترم) لأرباب الأسر.
ولكن علينا ها هنا أن نضع بعض الأمور في نصابها الصحيح، فهناك من تكلم عن معاناة أهل البحر في السابق، وهناك من وثق قصصا تاريخية عن الأهوال التي عاشوها، ولكن اليوم ننظر لهذه المسألة إثر تشكل طبقة عمالية كادحة (منظمة) في الكويت بسبب تطور المجتمع ونشير للحقيقة بأن الكثير من منتسبي تلك الطبقة (وليس الكل) أصبحوا من مواطني الدولة (العمال) في نظام اقتصادي اجتماعي جديد. أي بصريح العبارة، هناك من افتقد لقمة العيش والحياة الهانئة قبل اكتشاف البترول وبعده، والكلام هنا أيضا يجب أن يكون في نصاب تاريخي حقيقي، حيث إن مهنة الغوص قد اضمحلت نتيجة ظهور اللؤلؤ الصناعي وبداية أعمال التنقيب عن البترول بعد منح حق الامتياز لذلك عام 1934 من خلال شركة نفط الكويت والتي تملكها مناصفة الشركة الإنكليزية الإيرانية وشركة مباحث الخليج. فـ(الغاصة) وعمال البحر كانوا تحت رحمة من استعبدهم حتى أثقلهم بالديون والمعيشة الضنكة، والتي الى عام 1940 لم يتعاملوا معهم تحت مظلة قانونية تنظيمية حقيقية، الى أن خرج لنا «قانون الغواصين» والذي استعبد عمالة البحر ولكن بشكل رسمي وقانوني وتحت رعاية حلف طبقي بدأ يتشكل أيضا ما بين أهل السطوة والنفوذ الذين اقتاتوا على فوائض قيمة من أهل البحر. أعلم أن هناك الكثيرين ممن لم يسمعوا بقانون الغواصين، لكنه حقيقي وموجود ولا أستطيع أن أزيد على مقولة الكاتب محمد العجمي (الحركة العمالية والنقابية في الكويت- طبعة أولى 1982) بأن جميع مواده (القانون) ضد البحارة والغواصين بل تتبارى في ظلمهم، وأنا هنا بدوري لن أشير إلى مادة دون الأخرى لأنه بالفعل وبعد قراءة تمحيصية له هو قانون جائر مكتوب لصالح الأسياد دون حفظ حقوق البحارة و(الغاصة) البتة، وعليه نجد ولادة طبقة عمالية في الكويت بعد انقطاع العمل في البحر بنظام اجتماعي عبودي اقتصادي الى ما نحن عليه اليوم من صراع طبقي بين العمال والرأسماليين بدأ يتشكل شيئا فشيئا من مرور الزمن. ففي واقع الأمر هذا التطور في النظام الاجتماعي موجود وله من الشواهد الكثيرة في المجتمعات، بل علينا أن ننتبه بأن هذا التطور من نظام اجتماعي إلى آخر هو مؤشر للقادم من الأيام حين ينهي النظام الرأسمالي والتبعات المصاحبة لذلك الأمر. ولكن الغريب فيمن ينكر وجود كادحين وعمال منظمين في الكويت ولدينا من الشواهد ما لدينا، والأغرب هو استمرار هذا الصراع بين الطبقتين الى يومنا هذا مع تغيير المسميات وتغيير بعض الأطراف رغم أن الكثيرين ممن عانوا من استعباد البحر هم من أصبح لاحقا أصحاب ياقات ملونة وبرجوازيين على مستوى أقل، لكنه في النهاية هو ذاته، صراع بين من يملك ومن لا يملك، بل يطمح أن يوفر أساسيات العيش الكريم دون الحاجة الى التفكير في مصاريف باقي الشهر أو الأسبوع أو حتى بقية اليوم. وبالمختصر المفيد أقول، تشكلت الطبقة العمالية الكويتية وتنظمت صفوفها من خلال مهن عدة في السالف من الوقت وجدت إثر تطور المجتمع من نظام اقتصادي كان جائرا وعبوديا ومنحازا لطبقة دون الأخرى، وعليه لا نستغرب أن يكون هناك اليوم أيضا صراع طبقي ذو قواسم مشتركة مع صراعات عدة شهدها التاريخ المعاصر أيضا، فمن نظام مجتمعي إلى آخر، وهذه هي حال الدنيا و»الفهيم» هو الذي يقرأ المستقبل من خلال شواهد اليوم. على الأقل هذا ما نتعلمه من نظرية صراع الطبقات والتطور المجتمعي. على الهامش: ما زال المواطن الكادح يطمح أن يقتني منزلا خاصا به، فالموظف الكويتي هو الوحيد على وجه الأرض الذي لا يستطيع أن يشتري بيتا حتى إن اقترض وباع (ما وراه ودونه). السكن هو من بدهيات الحياة ونحن ما زلنا نردد ونقول: تحرير الأراضي السكنية واجب في الكويت، وافهم يا فهيم.هامش أخير: ترددت عبارة استخدام «القبضة الحديدة» مؤخرا وذلك بالإشارة إلى خفض مستوى سقف الحريات وتشديد الرقابة على الشعب، ونظرية صراع الطبقات وتطور المجتمع أيضا تعطينا من الشواهد أن هذا الأسلوب لا ينفع البتة مع الشعوب مهما بدت شواهد البدايات عكس ذلك.
مقالات
أوه يا مال
13-05-2021