تحيا الرئاسة الإمبراطورية
من التناقضات اللافتة للنظر بين إدارتي ترامب وبايدن الجدال الدائر حول ما إذا كانت الرئاسة حصلت على قدر من السلطة أكبر مما يتفق مع المصلحة العامة، فقد كانت فترة ولاية ترامب في منصبه مصحوبة بوابل من التعليقات التي زعمت أن الرئاسة أصبحت أقوى مما ينبغي، الأمر الذي سمح بتمكين رجل مجنون أو طاغية من تدمير حريات الأميركيين، وقد حث المنتقدون الكونغرس والمحاكم على إعادة تأكيد ذاتها قبل أن تنزلق البلاد إلى الاستبداد.لكن منذ تولى جو بايدن منصبه لم يفعل الديمقراطيون أي شيء لكبح جماح الرئاسة، فرغم أنهم يعرفون أن شخصا شبيها بترامب، أو ترامب ذاته، قد يخلف بايدن، فإنهم حولوا تركيزهم المؤسسي إلى حقوق التصويت، ولكن لماذا يهدر الديمقراطيون الفرصة لإصلاح الرئاسة؟ يتمثل أحد التفسيرات في أن الديمقراطيين لا يريدون المجازفة بإعاقة رئيسهم، خصوصا أن السيطرة على الكونغرس قد تفلت من قبضتهم في انتخابات التجديد النصفي في عام 2022، فإذا خسر الديمقراطيون السيطرة على مجلس النواب أو مجلس الشيوخ، فإن سعيهم إلى تحقيق أجندتهم السياسية يفرض عليهم تبني السلطة الرئاسية القوية التي شجبوها قبل عام واحد.يتلخص احتمال آخر في أن الهجمات التي شنها اليسار على إساءة استخدام ترامب للسلطة لم تكن صادقة قَـط، ربما تصور منتقدوه أن صرخات إدانة «الدكتاتورية» ستكون أكثر فعالية من الشكاوى حول التخفيضات الضريبية عندما يتعلق الأمر بإثارة المعارضة، أو ربما تكون السلطات الرئاسية الحالية مترسخة بعمق في القانون والعرف إلى الحد الذي يجعل أي محاولة لإصلاح المنصب محكوما عليها بالفشل.
لكن بعيدا عن كل هذا، هناك سبب أشد عمقا وراء استمرار الرؤساء في تكديس السلطة حتى رغم أن هذا الاتجاه يثير الانزعاج: يريد عامة الناس- بما في ذلك العديد من المراقبين السياسيين المخضرمين- رئيسا قويا، ليس بدافع من الإيمان بنظرية أو أيديولوجية، بل لأسباب عملية، فالرئاسة القوية فقط تبدو قادرة على معالجة التحديات العديدة التي تواجه البلاد.كان هذا هو الدرس المستفاد من العقدين الأخيرين، عندما ضربت الولايات المتحدة ثلاث أزمات رئيسة: هجمات الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية، وأزمة 2008-2009 المالية، والآن جائحة مرض فيروس كورونا 2019 وانهيار 2020-2021 الاقتصادي.من الواضح أن الإدارة تشكل ضرورة حاسمة في التصدي للأزمات، يبحث الناس عن قائد يعطيهم الطمأنينة والثبات، وحتى في أفضل الأوقات يكون الكونغرس عُـرضة للشجار والانزلاق إلى المهاترات التافهة، وإلى ذلك النوع من المساومة العقلانية رغم كونها مدمرة للذات وتُـفضي إلى التأخير بدلا من الفعل.أدت أزمات مثل الكساد العظيم والحرب العالمية الثانية إلى ظهور رئاسة «إمبراطورية» حديثة، فقد نقل الكونغرس الأميركي السلطة عن طيب خاطر إلى الرئاسة من خلال سلسلة من القوانين التي عملت على تمكين السلطة التنفيذية من الاستجابة لأي أزمة جديدة ومنع حدوثها، وفي حقبة الحرب الباردة اللاحقة التي اتسمت بالنمو التنظيمي، أعطت الموارد والسلطة قشرة للمنصب جعلته غريبا إلى حد يتعذر معه حتى على مؤسسي أميركا التعرف عليه.تزايد حجم الحكومة الوطنية دون انقطاع حقيقي منذ الحرب العالمية الثانية، مع استئثار السلطة التنفيذية بكل المكاسب التي تحققت في هيئة العاملين، والأموال، والبنية الأساسية. يريد الديمقراطيون رئيسا قويا لتنظيم الاقتصاد، في حين يريد الجمهوريون رئيسا قويا لحماية البلاد من التهديدات الأجنبية، والهجرة غير الشرعية، وعلى نحو متزايد، ضمان الأمان الاقتصادي. وفي الحادي عشر من سبتمبر، اختفت كل الدوافع السياسية المناهضة للحكومة التي ظهرت في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، فقد طالَـبَ الرئيس، وصدق الكونغرس والمحاكم على مطلبه، بصلاحيات رقابية وأمنية جديدة باسم حماية الأميركيين من الهجمات الإرهابية وغير ذلك من الغيلان الأجنبية. ثم استفزت الأزمة المالية التي اندلعت بعد سبع سنوات أكبر تدخل على الإطلاق من جانب الدولة في الاقتصاد الأميركي، حيث تولى مسؤولو السلطة التنفيذية مرة أخرى قيادة الاستجابة، وأدلى الكونغرس بدلوه من خلال تكميل الموارد غير المحدودة التي تتمتع بها السلطة التنفيذية ببضع مئات إضافية من مليارات الدولارات، ثم من خلال توسيع نطاق صلاحيات الرئيس، الذي كان هائلا بالفعل، لضبط النظام المالي بعد انقضاء الأزمة، وساعد انعدام الأمن الشخصي على نطاق واسع بفعل الكارثة الاقتصادية في دفع التدخل الحكومي المكثف في أسواق الرعاية الصحية خلال سنوات حكم أوباما.تكرر هذا النمط في العام الفائت، فقد أفضت الجائحة والأزمة الاقتصادية إلى المزيد من تدخل الدولة، مصحوبا بقيود كانت هي الأعرض قاعدة والأكثر امتدادا على الحريات الشخصي في التاريخ الأميركي (وإن كان ذلك بأمر من القادة المحليين لا إدارة ترامب الفوضوية).كان اللغز الوحيد في هذه القصة التي تدور حول السلطة التنفيذية المتزايدة التوسع متمثلا في رفض ترامب استخدامها في خضم واحدة من أسوأ هذه الأزمات الثلاث. انضم الساسة الليبراليون، الذين ادعوا لفترة طويلة أنهم يؤمنون بأن ترامب كان يبحث عن عذر لتدشين نظام دكتاتوري، إلى الجمهوريين في إمطاره بالأموال النقدية لاستخدامها وفقا لهواه وما يراه مناسبا، وطالبوه بفرض تدابير الإغلاق واستحضار قانون الإنتاج الدفاعي لتعبئة الموارد الاقتصادية الخاصة في الاستجابة للجائحة. كان ترامب مقاوما في الأغلب الأعم لهذه الدعوات، لكنه صَـدَّقَ على إنفاق أكثر من تريليون دولار من أموال الإنقاذ التي رصدها الكونغرس الأميركي (وكان حريصا على ظهور اسمه على شيكات التحفيز). كان تصرف ترامب ضعيفا وليس حاسما لأنه كان يخشى أن تؤدي الاستجابة الفدرالية القوية إلى إلحاق المزيد من الضرر بالاقتصاد وتقويض احتمالات إعادة انتخابه، ورغم أن ترامب يستحق الفضل في إنشاء برنامج الشراء المسبق للقاحات، أو عملية Warp Speed، فإنه أعطى انطباعا بأنه يتبع الكونغرس ولا يقوده، ودفع الثمن في صناديق الاقتراع، ولأن ترامب قَـدَّمَ نفسه كقائد قوي إلى اليمين فقد كان اليسار يخشاه باعتباره حاكما مستبدا، والمفارقة هنا غنية.من الواضح أن بايدن عقد العزم على عدم ارتكاب الخطأ ذاته، ولأنه يرى أن تعظيم وتفخيم منصب الرئاسة يخدمه على النحو الأفضل، فقد أطلق بايدن البرنامج السياسي الأكثر طموحا في عقود من الزمن، فهو لم يكتف بعدد كبير من الإجراءات التنفيذية والمقترحات التشريعية البعيدة المدى، بل أظهر أيضا اعتزامه إصلاح المحكمة العليا، آخر معاقل الجمهوريين في الحكومة الفدرالية. الواقع أن غياب المناقشة حول السلطة الرئاسية- بعد أشهر قليلة من هجوم حشد من الغوغاء على مبنى الكونغرس الأميركي بأمر من رئيس متهم بطموحات استبدادية- يشير إلى أن الرئاسة الإمبراطورية جاءت لتبقى.* أستاذ في كلية الحقوق في جامعة شيكاغو، وأحدث مؤلفاته كتاب «دليل زعماء الدهماء: المعركة من أجل الديمقراطية الأميركية من المؤسسين إلى ترامب».