يُفترض أن تكون أعمال العنف المريعة في القدس والضفة الغربية وغزة خلال الأسبوع الماضي جرس إنذار لصانعي السياسة الأميركيين والدوليين، فقد بدأ العالم يدرك أن هذه المنطقة لن تشهد أي سلام دائم قبل معالجة تداعيات نشوء إسرائيل في عام 1948، فبعد تشكيل حكومة أميركية تبدو منفتحة على خيار السلام، ولو نظرياً، حان الوقت لمراجعة الفرضيات القديمة حول هذا الصراع والدور الأميركي فيه.اشتقت الاضطرابات الأخيرة من جهود الحكومة الإسرائيلية الرامية إلى طرد عشرات العائلات الفلسطينية من حي الشيخ جراح في القدس الشرقية واستبدالها بمستوطنين إسرائيليين يهود بحجة أن تلك المنازل بُنِيت على أراضٍ تملكها جمعيات دينية يهودية منذ المرحلة التي تسبق حرب الاستقلال أو "النكبة" كما يسميها الفلسطينيون، لكنّ الفلسطينيين لم يتقبلوا حملة التطهير العرقي طبعاً.
لا يُعتبر الفلسطينيون في القدس الشرقية مواطنين إسرائيليين، بل يواجهون حملات من التمييز والظلم بشكلٍ يومي، ويظن معظمهم أن عمليات الإخلاء هي جزء أولي من حملة أوسع نطاقاً لإخراج الفلسطينيين من المدينة، أو حتى نقل جميع السكان الفلسطينيين الذين يفتقرون إلى دولة حقيقية في الضفة الغربية ويبلغ عددهم 2.7 مليون نسمة إلى أماكن أخرى.احتدمت الاضطرابات بسبب عمليات الإخلاء يوم الجمعة، حين ردّت قوات الأمن الإسرائيلية على صواريخ ألقاها مصلّون داخل الحرم الشريف الذي يشمل المسجد الأقصى بالرصاص المطاطي والقنابل الصاعقة وفق ما ذكرته التقارير، ثم اقتحمت الشرطة الإسرائيلية المكان مجدداً يوم الإثنين خوفاً من احتدام أعمال العنف بين الفلسطينيين المجتمعين هناك والمشاركين في مسيرة "يوم القدس"، وهو حدث سنوي للاحتفال باستيلاء إسرائيل على المدينة في عام 1967 لكنه يشكّل طبعاً إهانة مقصودة للفلسطينيين المقيمين هناك.حين رفضت القوات الإسرائيلية الانسحاب من المنطقة، بدأت حركة "حماس" التي تسيطر على قطاع غزة الصغير تطلق الصواريخ عشوائياً باتجاه الأراضي الإسرائيلية، ما استلزم رداً إسرائيلياً عنيفاً ومتوقعاً شمل ضربة جوية دمّرت مبنىً سكنياً يتألف من 13 طابقاً باعتباره يضم مكتباً تابعاً لحركة "حماس". في غضون ذلك، نادراً ما تتضمن تغطية سفك الدماء في وسائل الإعلام الأميركية أي سياق تاريخي، ما يؤدي إلى إرباك الرأي العام. تندلع أعمال عنف "جديدة" دوماً وكأن عمليات القتل هي أشبه ببركان غير مستقر ولا يمكن تفسير انفجاره المفاجئ، وتُعتبر هذه المواجهات مجرّد "اشتباكات" وكأن الدولة التي تملك أسلحة نووية وواحداً من أكثر الجيوش تطوراً في العالم هي قوة متكافئة مع حركة "حماس" أو المدنيين الفلسطينيين المفلسين الذين يعيشون بلا دولة. عند وصف الصراع كسلسلة من "الجولات"، لا مفر من أن تترسخ الفكرة القائلة إن جميع المبادرات المحتملة لا تستطيع تغيير الوضع.وما موقف إدارة بايدن من هذه التطورات كلها؟ حتى الآن، لا يزال موقفها محدوداً، ولا يهتم الرئيس بايدن على ما يبدو بالتورط في صراع أثار استياء جميع الرؤساء الأميركيين بعد الحرب العالمية الثانية، وحصلت آخر جهود جدية لحل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني خلال النصف الأول من عهد جورج بوش الابن، حين طرح تحالف رباعي مؤلف من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا والأمم المتحدة (يصعب أن يتعاون هذا الفريق مجدداً في أي وقت قريب) خريطة طريق للسلام في عام 2003 كي تحصد الولايات المتحدة الدعم لمغامرتها الفاشلة والوشيكة في العراق من عواصم عربية أخرى.حصل ذلك منذ 18 سنة، وحين تعثرت حرب العراق وأدت الدعوات إلى إرساء شكلٍ من الديمقراطية الفلسطينية كشرط سابق لإطلاق مفاوضات جديدة إلى فوز حركة "حماس" في عام 2006، غسلت إدارة بوش يدها من الصراع.رغم العدائية القوية بين إدارة أوباما ورئيس الوزراء الإسرائيلي اليميني بنيامين نتنياهو، لم يكن الرئيس أوباما مستعداً لإهدار رصيده السياسي بهدف إعادة إحياء عملية السلام أو تحدي إسرائيل، وبعد سيطرة اليمين المتطرف على الحكومة الإسرائيلية وانقسام الفلسطينيين بين حكومة تقودها "حماس" في غزة وبقايا الحرس الثوري القديم الذي شارك في المفاوضات على اتفاقيات أوسلو وكان يشرف على الضفة الغربية، بدا وكأن الولايات المتحدة لا تملك خياراً آخر إلا وقف المساعدات لإسرائيل. في النهاية، كان أسوأ قرار اتخذه أوباما ضد نتنياهو يتعلق بعدم استعمال حق النقض الأميركي للاعتراض على قرار مجلس الأمن الذي يدين نشاطات الاستيطان الإسرائيلية في عام 2016.تحقق حلم نتنياهو حين انتُخِب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة في عام 2016، وأرضى نجم برامج الواقع السابق معظم طموحات اليمين المتطرف الإسرائيلي، فانسحبت الولايات المتحدة من الاتفاق الإيراني، ونقلت السفارة الأميركية إلى القدس بما يتعارض مع توجهات السياسة الأميركية القائمة منذ عقود، وجمّدت المساعدات إلى السلطة الفلسطينية المحاصرة، وأوقفت مساهماتها إلى وكالة الأونروا التي تشرف على إعادة توطين اللاجئين الفلسطينيين الذين طُرِدوا من منازلهم بين عامين 1948 و1967، كذلك، منعت الإدارة الأميركية أي شكل من التمويل الفيدرالي للجماعات المرتبطة بحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات ضد إسرائيل، وفي مارس 2019، أصدرت الولايات المتحدة بياناً تعترف فيه بسيادة إسرائيل في منطقة الجولان المحتلة بعد الاستيلاء عليها من سوريا في العام 1967. وأعلن وزير الخارجية مايك بومبيو خلال السنة نفسها أن الولايات المتحدة لم تعد تعتبر المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية والقدس الشرقية انتهاكاً للقانون الدولي، ثم نجح ترامب في الأشهر الأخيرة من عهده في تقسيم العالم العربي عبر تأدية دور الوساطة لإبرام اتفاقيات سلام ثنائية بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة والبحرين والسودان.أدت هذه الخطوات مُجتمعةً إلى إنهاء الادعاء القائل إن الولايات المتحدة هي وسيطة سلام حيادية بين إسرائيل والفلسطينيين، حيث يميل الرئيس طبيعياً إلى تأييد الحكومة الإسرائيلية التي تستمتع، على غرار ترامب، في تأجيج أعمال العنف وتصعيب حياة الفلسطينيين، فأعطى ترامب موافقة أميركية رسمية لكامل مشروع ضم واستعمار الأراضي التي تم الاستيلاء عليها عن طريق الحرب بعد عام 1967 وشارك في ترسيخ الاضطرابات السياسية والاقتصادية اللامتناهية في حياة الفلسطينيين.نتيجةً لذلك، لا توحي الظروف بأن إطلاق جولة جديدة من عمليات السلام اللامتناهية سيحقق نتائج أفضل لجو بايدن مقارنةً بما حققه بيل كلينتون وجورج بوش الابن، لكن حان الوقت على الأقل كي تُجدد الولايات المتحدة التزامها بحل هذه المشكلة، بالتنسيق مع الحلفاء وقوى بارزة أخرى، ويجب أن توضح أن عمليات طرد السكان من القدس تنتهك حقوق الفلسطينيين، وتُكرر المواقف الأميركية حول المستوطنات والحدود وشكل الاتفاق النهائي القادر على إنشاء دولة فلسطينية.على صعيد آخر، يجب أن يفكر بايدن أيضاً بتهديد إسرائيل بوقف المساعدات الأميركية (علماً أنها ما عادت تحتاج إليها أصلاً)، إلى أن تتراجع إسرائيل عن حملة التطهير العرقي التي ترتكبها. الآن وقد نجح نتنياهو وترامب في تحويل إسرائيل إلى قضية حزبية، قد تتراجع المخاطر السياسية التي ترافق تعديلاً بسيطاً في الموافق، ولا تزال إسرائيل تحظى بتعاطف الناخبين الأميركيين أكثر من الفلسطينيين، مع أن الأميركيين الأصغر سناً باتوا أكثر انفتاحاً على الخطاب الفلسطيني.قد يوحي الوضع بأن عدم تحريك أي ساكن هو أفضل خيار محتمل في ظل غياب أي مسار مضمون لتحقيق السلام أو حل الصراع، لكن من الواضح أن المخاطر المطروحة على الفلسطينيين ستتوسع على المدى الطويل. في ظل تلاشي الآمال بإقرار حل الدولتين ومع زيادة قوة اليمين الديني الإسرائيلي، يرتفع احتمال الوصول إلى نهاية قاتمة للصراع، حيث تُطرَد أعداد كبيرة من الفلسطينيين من الضفة الغربية أو حتى من حدود إسرائيل قبل عام 1967 (حيث يُعتبر 1.9 مليون فلسطيني مواطنين من الدرجة الثانية).من يستطيع ردع إسرائيل على أرض الواقع؟ لا يمكن الاتكال على الرئيس الجمهوري المقبل للاعتراض على هذا النوع من الإبادات الجماعية أو التصدي لهذه الجرائم لأن ذلك الرئيس سيكون على الأرجح نتاج حزب جمهوري أثبت تأييده لبناء الأسوار وطرد السكان وترحيل الناس وتأجيج المعاناة الإنسانية لدى أكثر الناس حرماناً.إذا تحقق هذا السيناريو السيئ، قد تشتعل المنطقة بالكامل، وهو الاحتمال الذي يحذر منه المحللون منذ وقت طويل، ولا معنى لمعاهدات السلام إذا كانت إسرائيل ترتكب جرائم ضد الإنسانية، وقد تجرّ الحرب مصر وتركيا والأردن ودول الخليج إلى صراع لا أحد يريده، ولا ننسى التداعيات التي قد ترافق أي أزمة لاجئين كارثية جديدة، لقد كانت محنة الفلسطينيين من أبرز أسباب انتشار مشاعر البغض تجاه الولايات المتحدة في أنحاء المنطقة، وإذا استمر تدهور الوضع، فلا يمكن تقبّل عدم تحريك واشنطن أي ساكن إلا إذا أرادت أن تبدأ جولة جديدة من الإرهاب والمشاعر المعادية للولايات المتحدة. بعبارة أخرى، لم تعد مقاربة الانتظار حتى تغيّر الوضع قابلة للاستمرار.
دوليات
بايدن لا يستطيع تجنّب الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني!
21-05-2021