إيجابيات سقطة «وهبة»
حسناً فعلت رئاسة الجمهورية اللبنانية بإصدار بيان تستنكر فيه ما حصل وتؤكد عمق العلاقة مع الأشقاء في الخليج العربي، باعتراف واضح أن لبنان الرسمي مهما تراقصت به أنواء المتغيرات المرحلية لن يستطيع أن يتخلى عن بر أمانه العربي والخليجي والإقليمي.
حسناً فعل "شربل وهبة" وزيـر الخارجيــة اللبناني بالاعتذار من المملكة العــربية السعودية ومعها "أهل البداوة" ومن ثم التنحي عن مسؤولياته الوزارية في الحكومة المستقيلة، كنتيجة حتمية ومنطقية للسقطة التي وقع بها في لقاء تلفزيوني على قناة "الحرة"، والتي تعرض من خلالها بالإساءة والتجريح لبعض دول الخليج وشعوبها، كانعكاس فطري- لم تتحكم فيه إرادته- لخلفياته السياسية والعرقية والنفسية المتجذرة.وحسناً فعلت رئاسة الجمهورية اللبنانية بإصدار بيان تستنكر فيه ما حصل وتؤكد عمق العلاقة مع الأشقاء في الخليج العربي، باعتراف واضح أن لبنان الرسمي مهما تراقصت به أنواء المتغيرات المرحلية لن يستطيع أن يتخلى عن بر أمانه العربي والخليجي والإقليمي.ومهما اختلفنا في تحليل وتقييم الاعتذار والبيان، ومهما تعددت أو تمايزت وجهات النظر في الترحيب بهما أو رفضهما من منطلقات محلية سياسية أو لارتباطات ودوافع خارجية، فإن كليهما يمثلان أقل ما يمكن فعله من قبل لبنان الرسمي لمحاولة جبر الضرر الذي سببه من يفترض أنه على رأس الدبلوماسية اللبنانية، بما تعنيه كلمة "رأس" من هامة مرتفعة ومركز تحكم بكل المشاعـــر والتأثيرات العصبية.
لقد برر الوزير سقطته أنها أتت كردة فعل عفوية على النعت الذي تعرض من خلاله ضيف الحلقة التلفزيونية الصحافي السعودي، لكل من رئيس الجمهورية اللبنانية وصهره رئيس التيار الوطني الحر بالاستهزاء، حيث لا يقبل أحد إهانة المقام الرئاسي لا من قريب ولا من بعيد، ولكن مهما تفهمنا، حريته الخاصة بالتفكير والتعبير والانتماء السياسي، ومهما حاولنا استيعاب الأبعاد الشخصية أو حتى الوطنية لتصرف وزير الخارجية، فإنه لا شيء يبرر لمعاليه فظاظة رده وفظاعة فعله، وحماسته التي لا تمتّ الى الدبلوماسية بصلة، فقد كان بإمكانه أن يستنكر، أو يقابل الإساءة بالحجة، وربما قد يصل به الأمر الى الانسحاب من الحلقة، ولكن من غير المقبول بصفته الوظيفية كممثل للسياسة الخارجية لدولته أن ينجر الى إهانة أي دولة صديقة أو شقيقة، كما لا يجوز له أن يطول بالسوء أي رئيس دولة لا بالتلميح ولا بالتصريح، ولا يقبل منه الاستهزاء بأي شعب ولا بأي عرق أو أصل أو بداوة تقترن منذ فجر التاريخ بالأصالة والعراقة والقيم ومكارم الأخلاق، وهي شيمة فخر للمنتمين اليها.وكما لكل شيء وجهه القاتم، فإن في الحدث المريع ما قد تستخلص منه بعض الإيجابيات المفترضة، فلم يكن غريباً هذا الكم الكبير من التضامن الشعبي والرسمي مع المملكة العربية السعودية ومع دول الخليج قاطبة بكل مكوناتها الرسمية والشعبية "الحضرية والبدوية"، ورغم أن لهذا التضامن- على المستوى المحلي اللبناني- أبعاداً وخلفيات مختلفة ومتعددة، قد تنطلق من الدوافع المصلحية البحتة، الى الارتباطات السياسية والمذهبية، الى القناعات الراسخة بمتانة العلاقات العربية-العربية، مروراً بالتضامن الأخلاقي والطبيعي مع دولة عربية شقيقة، دون أن ننسى موجبات الوفاء لدول الخليج قاطبة التي لم تقصّر يوماً بالوقوف الى جانب لبنان شعباً ومؤسسات، في أزمنة الدمار كما في مرحلة الإعمار، إلا أنه مهما اندس بين المتضامنين بعض المرتزقة أو المتزلفين أو المستزلمين الذين لا تخفى على أحد في الخارج أو في الداخل زياراتهم المتكررة الى كل أنواع الخيم "الكنعانية" و"القذافية" وغيرها، فان الأمر لا يمكن أن يغير الوجه الحقيقي للقاعدة العامة، وقوامها تجذر العلاقة الخليجية-اللبنانية على كافة مستوياتها الرسمية والسياسية والشعبية. ومن الايجابيات المفترضة لما حدث، أن درس "شربل وهبة" قد يشكل لسياسيي لبنان فرصة للتأني في خلفيات تصرفاتهم ومستهدفات قراراتهم، على أمل أن تدخل في أدبياتهم أولوية مصلحة الشعب اللبناني ووجه لبنان الحضاري، قبل أي اعتبار شخصي أو مصلحة سياسية أو خطابات شعبوية. فقد آن للعاملين في الشأن العام والمتصدرين للشاشات أن يتنبهوا– في عالم مفتوح لا تخفى فيه خافية- أنهم لا يمثلون طوائفهم ولا ولاة أمورهم من القادة والزعماء المحليين، ولا هم حتى ممثلين لتياراتهم السياسية عندما يتعلق الأمر بالخطاب الرسمي اللبناني أو بصورة لبنان في الخارج وبعلاقته مع الدول الشقيقة والصديقة.إن ردة الفعل المستنكرة لسقطة "وهبة"، والتي عبرت عن الرأي الحقيقي للجل الأكبر من المكونات السياسية والدينية اللبنانية، تؤكد المؤكد، وهو أن لبنان– مهما عبث العابثون أو أخطأ الغافلون– لن يتنكر لوجهه العربي، وبالمقابل فإن الحضن العربي والخليجي- وإن سيطرت عليه برودة استثنائية- لن يتخلى عن لبنان ولا عن شعبه الذي أسهم وما زال يسهم في ركب الحضارة العربية والإنسانية وله بصماته المشهودة في مسار التنمية الإقليمية والعالمية.وبعيداً عن أي تفخيم أو تقزيم للحدث وما تلاه من ردود فعل شعبية ورسمية، فقد تكون فرصة لأن تتلقف "مملكة الخير" ومعها دول "خليج العطاء" حسن النوايا اللبنانية، فتعود بوصلة العلاقات السياسية والتجارية، وحركة السياحة والاستيراد والتصدير الى طبيعتها المعتادة، على أمل أن يتحسس لبنان الرسمي- بجدية أكثر- خطورة الأزمات التي يشارك في وضع اللبنانيين في "جهنمها".
د. بلال عقل الصنديد
ردة الفعل المستنكرة لسقطة «وهبة» تؤكد أن لبنان لن يتنكر لوجهه العربي