ينطلق المؤلف في دراسته من أن أي عملية تطور أو إصلاح اجتماعي وسياسي في واقعنا لا يمكن تحقيقها دون فهم وتفاعل مع الحالة الدينية بمختلف تنوعاتها، وعليه تهدف هذه الدراسة، التي أعدها د. علي الزميع، إلى استكمال رصد مسيرة وتطور أبرز التيارات الإسلامية السنية والشيعية على الساحة الكويتية بين عامي 1981 و2019م، التي شهدت زخماً كبيراً على المستويين الفكري والميداني، حيث تعد هذه الدراسة استكمالاً للجزء الأول الذي غطى مسيرتها وتطور حركاتها على الساحة الكويتية بين عامي 1950 و1981م، والذي سبق لـ«الجريدة» أن نشرت ملخصه في حلقات سابقة في العام قبل الماضي. وتقوم الدراسة على ثلاثة أبواب، هي «الملامح الاجتماعية والثقافية والسياسية للمجتمع الكويتي»، و«أهم ملامح التطور الفكري والسياسي للحركات والتيارات الإسلامية»، و«المجالات والفضاءات المجتمعية لنشاط التيارات الإسلامية».وتتناول بالوصف والتحليل حقبة زمنية يمثل العقد الأخير منها ما يعتبره البعض بداية أزمة لتيارات الصحوة وتراجعها، مما يجعل هذا الجزء من الدراسة تلقائياً محل جدل ونقاش كبيرين، وهو ما تهدف إليه الدراسة أساساً، محاوِلة إيجاد مناخ ثقافي وفكري موضوعي قدر الإمكان، في ظل ما يشهده العمل الإسلامي المعاصر عامة والكويتي خاصة من بدايات لمتغيرات وعمليات مراجعة للذات في خضم حالة من الصراع الشديد الذي يشهده داخلياً وخارجياً، وأمام تحديات عديدة تمثل مفترق طرق لها ولمجتمعاتها.
وتنبع أهمية الدراسة من أن هذه التيارات الإسلامية الكويتية أدت أدواراً مؤثرة في الحراك الاجتماعي والسياسي والثقافي في الحقب التاريخية المتعاقبة ومازالت تؤدي أدواراً رئيسية، ولهذا ستحاول الدراسة متابعة ملامح هذه الحركات بشكل متوازٍ، مع رصد ملامح تطور الدولة والمجتمع ونموهما في الفترة بين عامي 1981 و2019م.ويشير الكاتب إلى أنه حاول تجاوز ذكر الكثير من الأمثلة والظواهر المؤججة سلباً للمشاعر والمحيطة بحراك فصائل العمل الإسلامي، حرصاً على منع استغلالها في مناخ الفتنة الطائفية والمجتمعية القبلية والطبقية المستعرة في المجتمع، مع الحرص على ذكر الحالة والقيم التي أفرزتها، التزاماً بالموضوعية، وتجنباً لمحاولة البعض استغلالها في معارك التشويه المتبادل، مع الانتباه إلى أن هذه الحلقات لا تمثل تفاصيل الأفكار ومراجعتها الواردة في ثنايا الكتاب الأساسي، بل هي مجرد محطات وومضات مختارة من متن الدراسة.وفيما يلي تفاصيل الحلقة الثانية من الملامح الاجتماعية والثقافية والسياسية للمجتمع الكويتي:
استكمالاً للحلقة السابقة من الكتاب تستمر هذه الحلقة باستعراض الملامح الاجتماعية والثقافية والسياسية للمجتمع الكويتي وذلك باستعراض الحراك الفكري والثقافي والمسيرة التعليمية والملامح السياسية للمجتمع الكويتي في حقبة (1981– 2019م).
تراجع الحراك الفكري والثقافي
شهدت هذه الحقبة تغيرا كبيرا في مسيرتها وملامحها الثقافية لارتباط تطورها بالحراك السياسي والاجتماعي، فمن المعلوم أن نمو الحركة الثقافية يرتبط بصورة وثيقة سلبا أو إيجابا بنمو وتطور المناخات السياسية والاجتماعية والعكس صحيح، وهو ما لم ينطبق في حالة الكويت، إذ إن الأمر المثير للدهشة أنه قد واكب هذا التراجع الثقافي العديد مما كان يجب اعتباره إنجازاتٍ سياسية ووطنية، التي كان يجب أن تعوق هذا التراجع الثقافي وتمنعه، لكنها استخدمتْ بشكل سلبيٍ؛ فاستغل ارتفاع سقف الحريات السياسية في فتراتٍ كبيرة من هذه الحقبة في تكريس تراجع الحريات الثقافية، حيث أعطى هذا السقف العالي من الحريات السياسية هيمنة وتسلطا لبعض القوى السياسية التقليدية التي فرضت رؤاها الضيقة التقليدية على الحياة العامة من خلال استغلال سلطتها وقوتها السياسية برلمانيا.ومن أبرز تجليات هذه الحالة إهمال القيم الإيجابية العامة في الثقافة الإسلامية، كالحريات والعدالة والتسامح وقبول الآخر وغيرها، فهيمنت ثقافةٌ دينية سطحية سنية وشيعية، أضف إلى ذلك ثقافة الكتلة القبلية التقليدية المحافظة التي جاءت منسجمة ومتحالفة فكريا مع الثقافة التقليدية الدينية.وتم توظيف زيادة عدد المؤسسات الثقافية الرسمية والشعبية في خدمة وتكريس مخرجاتٍ ثقافية سلبية فكريا، وفي هذا السياق، يلخص هذا الواقع بكل موضوعية وأمانة أحد التقارير الرسمية- الصادرة عن إدارة الدراسات والبحوث في مجلس الأمة الكويتي في يوليو 2013 تحت عنوان «حرية التعبير في دولة الكويت ما بين التشريع والتطبيق»- الذي يشير إلى أنه على الرغم مما شهدته المؤسسات الإعلامية الكويتية من نموٍ متزايد، فإن غالبية الصحف والمجلات والمحطات المرئية والمسموعة في الكويت تخضع لسيطرةٍ رسمية أو فئوية خاصة بشكل مباشر أو غير مباشر، ويضيف التقرير الرسمي أنه على الرغم من أن الدستور قد عهد إلى السلطة التشريعية تنظيم المسائل المتعلقة بحرية الرأي والحق في التعبير، فإنه تم إصدار عدة قوانين من شأنها تقييد حرية الرأي والحق في التعبير مما أدى الى صدور تقارير من منظمات حقوقية دولية تنتقد هذا الحالة.تراجع المسيرة التعليمية
من القضايا المعوقة للتنمية الثقافية، تراجع المسيرة التعليمية كونها رافدا ثقافيا رئيسا يجب أن يسهم في تعديل منظومة القيم الاجتماعية والسياسية بما يناسب الطموحات التنموية للمجتمع، فمني التعليم في الكويت بهذا الإخفاق رغم ارتفاع إجمالي الإنفاق على التعليم في الميزانية العامة للدولة في الكويت، فخلال الفترة ما بين عامي 1997 و2015م ارتفعت مخصصات التعليم من الميزانية العامة من 8.5% إلى 15%، وهو معدل مرتفعٌ بالمقارنة بمعدلات الإنفاق على التعليم في البلدان المتقدمة، ومع ذلك ما زالت مخرجات التعليم هزيلة.إذ تحولت العملية التعليمية في الكويت إلى سباقٍ لتلقين المناهج وحفظها دون استيعابها، ويصف تقرير رسمي آخر- صادر عن إدارة الدراسات والبحوث في مجلس الأمة الكويتي في أبريل 2009 تحت عنوان «التعليم الحكومي في الكويت مشكلاته وسبل الحل»- التعليم في الكويت بأنه يعاني قصورا نوْعيا، وتتجلى أبرز مظاهر هذا القصور في اتصافه بعدم التجانس والتكافؤ في المستوى والجودة، فنظام التعليم في الكويت بشكل عامٍ لا يلبي المتطلبات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للمجتمع، كما أنه لا يلبي احتياجات سوق العمل، كما أنه يفتقر إلى التخطيط السليم والإدارة الجيدة والرؤية الاستراتيجية.جدلية حول الأطر السياسية
قراءةٍ الحراك والتغير السياسي في الكويت خلال 35 عاما مضت تظهر أنها كانت مجرد استمرارٍ لظاهرة تاريخية اتسمت بحالةٍ من عدم التوافق السياسي بين القوى الشعبية والسلطة الرسمية ممثلة في الصراع حول تفسير واستكمال مفاهيم ومبادئ الدولة والحياة السياسية مما جعل هذه الحياة تمر في فترات متباينة من التأزيم والانفراج من خلال المسيرة البرلمانية، ويرجع كثير من المحللين هذه الحالة من التراجع إلى عوامل عديدةٍ اكتنفت المسيرة السياسية لهذه الحقبة، ومن أبرزها عدم حسم قضيتين شكلتا هاجسا في عملية التطور السياسي وهما: قضية المزج بين النظامين الرئاسي والبرلماني في الدستور، وقضية عدم تطور التجربة الديمقراطية في الكويت لعدم وجود قانون لتنظيم العمل السياسي وإشهار الأحزاب.أما القضية الأولى فقد لخصها الشيخ صباح الأحمد رحمه الله أمير البلاد في تصريح صحافي لصحيفة ألمانية نقلته وكالة الأنباء الكويتية (كونا)، بتاريخ 26 أبريل 2010م بالقول: «خطأ البرلمان في أداء وظيفته يعود إلى الدستور الكويتي؛ لأن هذا الدستور يمزج بين النظامين البرلماني والرئاسي؛ ولذلك فلا هو رئاسيٌ صرفٌ ولا برلماني بالمطلق، وإنما هو يجمع بينهما معا، وهذا الوضع يؤدي إلى تداخل السلطات التشريعية والتنفيذية، وهذا ينتهي إلى تنازعٍ بين السلطتين؛ لأن كلا منهما تسعى إلى تقليص صلاحيات الأخرى».وأما القضية الثانية؛ فغياب قانون لتنظيم العمل السياسي والأحزاب، رغم أن الكويت تتميز واقعيا بوجود تياراتٍ سياسيةٍ تعترف بها الحكومة من الناحية العملية والسياسية وخاصة من خلال إشراكها في تشكيلات مجلس الوزراء، على الرغم من أن الدستور أقر الآلية الحزبية كإحدى السياسات الرئيسة لتحقيق الديمقراطية السياسية، حيث جعلت المذكرة التفسيرية أمر تنظيمها خاضعا لصدور قانونٍ يقرره مجلس الأمة، لكن الكثير من القوى السياسية الرسمية والشعبية تتحفظ وتتوجس خيفة من استكمال المناخ الديمقراطي أو حفاظا على مصالح اجتماعيةٍ ومصلحيةٍ وسياسية ضيقة.وفي هذا الإطار ونتيجة لعدم استكمال التجربة الدستورية بمعالجة الاختلالين الهيكليين السابقين وغياب طرح جاد لمعالجاتٍ وسياساتٍ ورؤى تؤدي إلى استمرار تأسيس المجتمع والدولة الحديثة المبنية على مفاهيم المواطنة الكاملة، إضافة إلى ضعف الحراك والنشاط السياسي الذي اختزل في النشاط البرلماني جعل من المسيرة الديمقراطية أداة استغلتْ من قبل الكثيرين وأدتْ إلى تكريس شرخ اجتماعي، يعوق عملية الاندماج المجتمعي واستكمال المسيرة التنموية بأوجهها المختلفة، هذه الحالة من الممارسة السلبية لم تكن مقتصرة على قوى دون أخرى فإضافة إلى محدودية رؤية التطور السياسي لدى السلطة كان لعدم تطور فكر القوى الوطنية والإسلامية ورؤاها وحراكها دورٌ سلبيٌ في عدم إنضاج الحركة السياسية نتيجة للحالة الضبابية والحيرة والتناقض تجاه تأصيل مفاهيم الديمقراطية وسيادة الأمة والحريات الكاملة لما تراه تناقضا مع مصالحها أحيانا لدى البعض أو مع قيمها الدينية لدى البعض الآخر.المسيرة البرلمانية
اتسم أداء مجلس الأمة في هذه الحقبة بالتعثر في ظل تزايد الأزمات المتتالية التي تلقي بظلالها على مسيرة التنمية بشكل دائم، ولعل أبرز تجليات تلك الأزمات ما مرت به تجربة الممارسة البرلمانية الديمقراطية في الكويت من عدم استقرار وصدامات سياسية حيث شهدت هذه الحقبة استمرار ظاهرة المبالغة في حل مجلس الأمة ولكن الملاحظ أنه ما بعد حل مجلس الأمة في 3 يوليو 1986، وحتى الآن لم تشهد الكويت أي حل غير دستوري، وتفاقمت هذه الحالة من الأزمات المستمرة للوصول إلى ما يطلق عليه حادثة اقتحام مجلس الأمة، ففي 16 نوفمبر 2011 ونتيجة لتصعيد سياسي بين النواب والحكومة أقيمت احتجاجات سياسية برلمانية وشعبية أمام مجلس الأمة تلاها دخول مبني المجلس من بعض المحتجين والنواب، والذين تمت إحالتهم لاحقا الى القضاء.بين مجتمع المواطنة والمحاصصة
في محاولة لتحليل سبب هذا التراجع السياسي، هناك من يرى أن الهويات الاجتماعية تم توظيفها كأداة في قمع الحراك السياسي الديمقراطي وإضعافه، حيث بني على فلسفة الدولة الريعية المحاصصية، ويرتبط بهذا التحليل ضرورة تحديد طبيعة الدولة الكويتية في هذه الفترة، فهل يمكن اعتبارها دولة مدنية ديمقراطية أم هي دولة محاصصةٍ طبقية وطائفيةٍ وإثنية؟ وبالتالي فإن السعي والإصرار على استبدال نظام الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة بنظام دولة المحاصصة يبقى تحديا وعتبة مهمة لانتقال المواطن الكويتي إلى مراحل متطورة تتحقق فيها طموحاته، ويحصل فيها على كامل حقوقه الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية بشكل عادل ومتساو.وبمراجعة فكر وواقع مجتمعات ودول المحاصصة، نجدها تفتقر إلى العديد من القيم الأساسية، كعدم الإقرار بالديمقراطية التعاقدية مبدأ أساسيا للتعامل بين أجهزة الدولة والمواطن وبين المواطنين، وضبابية تنظيم العلاقة بين الدين والدولة ومفاهيم الدولة المدنية، وللأسف نجد في مسيرة الحياة السياسية والديمقراطية الكويتية الكثير من الممارسات المعارضة لهذا التوجه ممثلة في العديد من التشريعات القانونية المناقضة حتى للدستور وروح الدين في هذا الشأن.وإذا أريد أن يحدد بشكل مباشر وجه الخلل ومحل التقويم لترميم هذا التراجع وتصحيح مسار مفهوم المواطنة، فإن تحقيق ذلك يفرض ويوجب أن تكون للدولة هويةٌ جامعة يشعر المواطنون جميعا بالانتماء إليها والولاء لها، هناك مكونين رئيسيْن هما: التاريخ والثقافة الجامعة، والمصلحة المشتركة والعدالة.فعلى الدولة أن تقوم بتعزيز ما هو مشترك بين المكونات الاجتماعية لصناعة الذاكرة الجماعية وتحقيق مصالحهم المشتركة بعدالة ومساواة، وهذا ما ينتج عنه تكون رابطة وطنية بين أبناء المكونات الاجتماعية الكويتية المختلفة، تسهم في خلق حالة جديدة من الالتحام تسمى الأمة الوطنية.أبرز ملامح دولة المحاصصة الريعية
• قسمت قيم المحاصصة المجتمع الكويتي إلى كياناتٍ جزئية مصطنعة أدتْ إلى عزل مكوناته عن بعضها على أساس الانتماء ما يمكن أن يطلق عليه الأثنو-طائفية والمبني على التمحور حول الطائفة أو القبيلة.• أدى هذا العزل بالضرورة إلى إضعاف حراك القوى الوطنية المدنية؛ لأن هذا العزل أفضى إلى تجزئة هذه الكيانات الاجتماعية الرامية إلى التحرر والتطور.• يقوم مشروع دولة المحاصصة على فلسفة توزيع الثروة والخدمات والمناصب الوظيفية على أساس محاصصي بهدف شراء الرضاء والولاء السياسي. مما قاد إلى تراجع الولاءات الوطنية الكبرى وتحولها إلي ولاءات ضيقة.• أدى تبني دولة المحاصصة في الكويت إلى ضعف السلم الاجتماعي في المجتمع.• لجأت بعض مكونات المجتمع الكويتي إلى الاعتماد على قوى خارجية إقليمية أو دولية للاستقواء بها على المكونات المقابلة.• استغل الستار الطائفي القبلي والطبقي من قبل بعض الشرائح والرموز الاجتماعية والسياسية لطلب السلطة والقوة ونيلهما مستفيدة من الوضع.وقد جاءت الممارسات السياسية والاقتصادية الشائهة لتعمق هذا التراجع الخطير على قيم المواطنة وسياساتها، وتجعله يهيمن على ساحة الدولة والمجتمع.
التراجعات المجتمعية والمسؤولية عنها
في الختام يتضح أنه في ظل هذا التراجع في الملامح الاجتماعية والثقافية والسياسية في هذه الحقبة مقارنة بحقبة التأسيس، يلاحظ أن الأمر المثير حقا والباعث على الاستغراب هو ضعف اهتمام النخب المثقفة اجتماعيا وسياسيا ودينيا من المنتمين للكيانات الرئيسة في المجتمع وتخاذلها عن تأدية دورٍ أكبر في الخروج من هذا المأزق بإسهاماتٍ علمية وسياسية فاعلة أو حتى بالحد الأدنى من الإسهام في الإنتاج النظري والتأصيلي الذي من شأنه تتبع التطور المجتمعي والثقافي لمكونات المجتمع المختلفة ورصد دورها في بناء الكويت الحديثة.ويتمثل الخروج من هذا المأزق الاجتماعي في البحث عن صيغة هوية وطنية جامعة مؤطرة بتعزيز ما احتواه الدستور الكويتي من مبادئ ومضامين أصلت لما يتطلع إليه عموم مكونات المجتمع وشرائحه من قيم الهوية والعدالة والمساواة والحرية، التي من دونها لا يمكن قيام مشروع الدولة الوطنية الحديثة باعتبارها القادرة على استيعاب التنوع والتباين المجتمعي والمنظمة للتنافس حول برامج ومصالح تحقيق الذات من خلال الأطر السياسية الحديثة وكذلك أطر مؤسسات المجتمع المدني بديلا لأطر الهويات التقليدية الضيقة التي من شأنها تقييد هذه الكيانات في محيطها الجزئي، مع الانتباه إلى أن رفض الاحتماء بتلك الهويات المجتمعية لا يعني طلب تخلي أفراد هذه الكتل عن خصوصيتها والتعددية وتمايزها الاجتماعي والثقافي الذاتي، فإن هذا التمايز لا يمثل في حد ذاته إشكالية، بل هو إحدى سمات المجتمعات الحديثة التي تحترم الخصوصيات بداخلها.في ظل هذا السياق السلبي عموما، يثار تساؤل مهمٍ هو: ما أسباب هذه التراجعات المجتمعية؟ ومن يتحمل مسؤوليتها؟ قطعا لا يمكن الدفع بعامل واحدٍ وتقديمه قربانا على مذبح التبرير، فالأمر أعقد من هذا بكثير؛ إذ تتحمل كل الأطراف في المجتمع والدولة المسؤولية عن هذا، وعليه فقد الحراك المجتمعي المدني المعاصر أكثر إنجازاته السياسية التي حققها تاريخيا، وأصبحت المنظومة والعملية السياسية المضطربة والمتذبذبة تعوق إنضاج العملية السياسية الديمقراطية وتطورها، وهذا ما أحدث فرزا اجتماعيا قسم مكوناته الجزئية وعظم دور القوى المصلحية والانتهازية الاجتماعية ذات الأجندات الخاصة، والتي لا تملك رؤى مستقبلية يعول عليها في مشروع تنموي حديث.في ظل هذا التدهور الاجتماعي والتراجع السياسي والاقتصادي، أصبح حتما على جميع قوى المجتمع ومكوناته على اختلاف خلفياتها الفكرية والسياسة أن تراجع قناعاتها وبرامجها وواقعها الراهن، وتلك حاجةٌ أكثر إلحاحا مما مضى، وهذا متغير يستدعي حتمية المراجعة والإبداع في المعالجات وهيكلة السياسات الإنمائية للتطور من عملية «نمو» إنفاقيٍ عشوائيٍ إلى عملية «تنمية مستدامة شاملة» ذات أهدافٍ اجتماعية وسياسية واقتصادية واضحة ومتفق عليها مجتمعيا، وهذا أمرٌ لا مفر منه إذا كانت هناك رغبةٌ حقيقية في إعادة بناء المجتمع الكويتي وصياغته وفْق استراتيجية مستقبلية شاملة تحقق قيم الدولة الوطنية الحديثة، وهذا ما يستدعي البحث الموضوعي في الأسباب السياسية والاقتصادية التي أدتْ إلى هذا الواقع.وفي ظل هذا الاحتقان الاجتماعي والسياسي شهدت الكويت محطات عديدة من التحديات كان من أبرزها بروز حالة التجاذب الفئوي والطبقي والطائفي بين مكونات المجتمع في عددٍ من القضايا والحوادث التي شغلت الرأي العام، حيث برزت جدلية وإشكالية تسييس قضايا المواطنة سياسيا وانتخابيا في عددٍ من القضايا كان من أبرزها ما أطلق عليها قضية «الجناسي المزورة»، التي أدت ضبابية التعاطي معها إلى حالةٍ من الاحتقان الشديد في الشارع الكويتي، وتعمق مخاطر التفكك المجتمعي وتزايدها نتيجة استخدام هذه القضية الوطنية كأحد مفردات الصراع واللعبة السياسية من خلال استخدامها أداة مكافأة أو عقاب أحيانا أخرى، مما شكل خطرا كبيرا على قيم المواطنة وتماسك المجتمع.وفي هذا الإطار، يشير تقرير الشال إلى خطورة هذا الوضع بقوله: «والنموذج الصادم المطروح اليوم، هو ذلك الجدل حول السكان المواطنين الذي شارك فيه كل طرف، ما عدا الحكومة، حتى أعطى كل طرف نفسه الحق بالتفتيش عن أحقية الآخر بالمواطنة، وهي فتنة ما بعدها فتنة. وحسم هذا الجدل في غاية السهولة، وهو أن تتولى الحكومة عرض الأرقام الصحيحة، وهي تملكها، وتحصر حجم التلاعب في ملفات الجنسية إن وجد، وتتعامل معه وفْق القانون لا وفق الموقف السياسي».يبدو أن هناك تقاطعات سياسية وقانونية تؤجل حسم هذه المسألة التي أصبحت أداة تفتيتٍ في جسم المجتمع، وبالأخص أن هناك شرائح اجتماعية ترى أنها مستهدفةٌ من هذه الحملة التي تراها حملة مصطنعة لا تقوم على أسسٍ حقيقية.ومن المؤكد أنه لا يمكن بناء مجتمعٍ متماسكٍ وقويٍ دون عملية تحول ديمقراطيٍ كامل، على اعتبار أن الديمقراطية هي الآلية الأكثر تنظيما لشؤون الحكم والإدارة وضبط العلاقات ومنافسات الجماعات على الساحة وفْق مبادئ المواطنة، ومن الضروري أن تسعى جميع شرائح المجتمع الوطني للتصدي لمحاولة ملء فراغ المجتمع المدني واستغلاله من قبل الحراك السياسي الرسمي أو الشعبي بوحدات مجتمع مدنيٍ مصطنعة لا تمثله؛ إذ إن هناك تلازما وتوءمة وعلاقة طردية بين نمو المجتمع المدني وتطوره في أي مجتمع إنسانيٍ وبين التحول نحو الديمقراطية.وعقب تناول الكتاب للملامح الاجتماعية والثقافية والسياسية للمجتمع الكويتي في الحقبة بين عامي 1981و2019م، يتعرض الكاتب إلى التطور الفكري والسياسي للحركات والتيارات الإسلامية السنية والشيعية الكويتية وهي مواضيع الحلقات القادمة.التكاتف الوطني والتماسك المجتمعي في مواجهة التحديات
في 26 يونيو 2015 شهدت الكويت اختبارا جديدا لمدى تفعيل قيم المواطنة بين مكوناتها والتماسك فيما بينها، حينما نفذ أحد عناصر تنظيم داعش تفجيرا انتحاريا في أحد المساجد الشيعية (مسجد الإمام الصادق)، ونتج عن الحادثة مقتل 27 شخصا وجرح 227 مواطنا على الأقل كان جلهم من الكويتيين، ورغم مأساوية الحادثة فإنها أبرزت حالة من الإيجابية الشعبية تمثلت في التكاتف الوطني لمواجهتها استنكارا للحادث، وظهر التماسك المجتمعي بتقدم عددٍ كبير من جميع فئات المجتمع للتبرع بالدم للمصابين، وأقيم العزاء الذي حضره نحو 35 ألف شخص في مسجد الدولة الرسمي.يتوافر الكتاب بجزأيه في مكتبة أفكار، ذي فيو مول - السالمية