بينما يتأمل الرئيس الأميركي جو بايدن في تصحيحات المسار بعد أشهره الأولى في المنصب، يبرز تغيير واحد يستحق الدراسة بشكل خاص: التحول باتجاه سياسة خارجية أكثر واقعية وعملية وأقل أيديولوجية.حتى الآن، كان بايدن يركز حنكته السياسية في إدارة الدولة على الـصِـدام بين الديمقراطية والاستبداد، وفي خطابه أمام الكونغرس في أواخر الشهر الماضي، حَـدَّدَ بايدن هوية خصوم البلاد على أنهم "حكام العالم المستبدون"، متعهدا بأنهم "لن يفوزوا بالمستقبل، فالمستقبل لنا، المستقبل لأميركا"، تصور بايدن "معركة في القرن الحادي والعشرين بين مؤسسة الديمقراطيات... والأنظمة الاستبدادية"، فدعا إلى عقد "قمة عالمية للديمقراطية" لحشد البلدان المتماثلة في الفِـكر ضد الخصوم غير الليبراليين.
ربما يساعد هذا النهج في حشد الأميركيين حول الـعَـلَم، لكنه خطأ استراتيجي، فقد اختلت العلاقات الأميركية مع كل من الصين وروسيا منذ تولى بايدن المنصب، فدقت الصين طبول الحرب مع تايوان، وتَـشَـاحَـنَ المسؤولون الصينيون والأميركيون علنا، وأطلقت روسيا تهديدات عسكرية جديدة ضد أوكرانيا. وتتبادل الولايات المتحدة والكرملين الآن فرض العقوبات وطرد الدبلوماسيين.نظرا لاختلاف المصالح، كان التوتر الكبير في العلاقات الأميركية الصينية والأميركية الروسية أمرا لا مفر منه، لكن التصعيد الأخير للعداء يزيد من خطر حدوث قطيعة دبلوماسية بغيضة، أو ما هو أسوأ من ذلك، ويعوق التعاون الضروري في التصدي للتحديات المشتركة مثل تغير المناخ، والصحة العالمية، والانتشار النووي، وإدارة اقتصاد عالمي مترابط.سيكون من الصعب للغاية أن تتعاون الولايات المتحدة مع الصين وروسيا في التصدي لأي قضية تقريبا ما دامت الاستراتيجية الأميركية الكبرى تركز على إسقاط القوى غير الليبرالية، وبدلا من إطلاق وابل من الهجمات الأيديولوجية، ينبغي لإدارة بايدن أن تعكف على تصميم استجابات محسوبة للتهديدات المنفصلة التي تفرضها كل من الصين وروسيا بينما تسعى أيضا إلى العمل الجماعي العملي معهما.في ما يتعلق بالصين، ينبغي للولايات المتحدة وحلفائها التصدي لممارساتها التجارية غير العادلة، وإعادة سلاسل التوريد المهمة إلى الوطن، والحفاظ على التفوق في المجالات التكنولوجية الأساسية، ومواجهة القدرات العسكرية الصينية المتنامية، وعندما يتعلق الأمر بروسيا، يجب أن يكون الهدف فحص ومعاقبة توسع الكرملين العسكري، والهجمات السيبرانية (الإلكترونية)، والتدخل في الانتخابات الأجنبية، وعلى نطاق أوسع، ينبغي لكل الديمقراطيات أن تدين انتهاكات الحقوق السياسية وحقوق الإنسان أينما حدثت.لكن في عالَـم تحكمه العولمة ويتسم بالاتكالية المتبادلة على نحو لا رجعة فيه، لا ينبغي لمواجهة المخاطر الواضحة الداهمة أن تستلزم رسم خط صدع إيديولوجي جديد، وعلى الرغم من نجاح جهود الاحتواء ضد الاتحاد السوفياتي في الحرب الباردة، فإن استراتيجية "معنا أو ضدنا" لن تحقق النتائج نفسها اليوم، وفي ظل اقتصاد كان يعادل في ذروته ثلاثة أخماس حجم الاقتصاد الأميركي، لم يقترب الاتحاد السوفياتي قَـط من تطوير الوسائل اللازمة للتفوق على منافسيه الديمقراطيين، وكانت اشتراكيته المتصلبة وتحالفاته القسرية من الأسباب التي أفضت إلى إصابة اقتصاده بالشلل وإضعاف جاذبيته العالمية.هذه ليست الحال مع الصين، التي سيتجاوز ناتجها المحلي الإجمالي قريبا نظيره الأميركي ثم يتفوق عليه بأشواط، وبفضل إدارتها السياسية والاقتصادية المقتدرة التي تتجه من أعلى إلى أسفل، وبراعتها التكنولوجية، واستثماراتها الأجنبية الضخمة، وانتشارها الدبلوماسي الطموح (بما في ذلك صادراتها الضخمة الواسعة النطاق من لقاحها ضد مرض فيروس كورونا 2019)، تتمتع الصين بالفعل بنفوذ عالمي كبير، ولم يعد من الممكن العودة إلى النظام العالمي المنفصل المكون من كتلتين الذي ساد أثناء الحرب الباردة.في هذا العالم الناشئ، سيظل الحكم الديمقراطي محتفظا بميزته الجوهرية المستمدة من حقيقة مفادها أن البشر يفضلون الحرية، ولكن للمرة الأولى منذ ظهورها كقوة عالمية في أربعينيات القرن العشرين، تواجه الولايات المتحدة في الصين الآن منافسا كامل النطاق، ولأن الولايات المتحدة تحتاج إلى مساعدة الصين لكبح جماح كوريا الشمالية، ووقف الاحتباس الحراري الكوكبي، والتصدي للقضايا الأخرى العابرة للحدود، فمن الأفضل لها أن تبدأ في رسم استراتيجية لا تدور حول شعار "نحن ضدهم" وحسب. إن ارتكاز السياسة الأميركية على الصدام بين الديمقراطية والاستبداد لن يقودها إلى الفشل في احتواء الصين وحسب، بل الأسوأ من ذلك أنه سيشجع في واقع الأمر سلوك الصين المتمرد من خلال تعضيد تحالفها غير المقدس مع روسيا فلاديمير بوتين، فقد كانت الصين وروسيا متنافستين تاريخيا، ومن الطبيعي أن يثير صعود الصين انزعاج الكرملين، لكن النظامين الاستبداديين دخلا بدلا من ذلك في زواج مصلحة لمقاومة ما يعتبرانه طموح الغرب الزاحف.بدلا من مقاومة روسيا والصين معا، ينبغي للولايات المتحدة أن تعمل على فطام روسيا عن تحالفها المريح مع الصين، فكما مدت الولايات المتحدة يدها للصين في سبعينيات القرن العشرين لإضعاف الكتلة الشيوعية، يجب على بايدن وحلفائه الأوروبيين محاولة اجتذاب روسيا نحو الغرب، وكان انفتاح بايدن المعلن على عقد لقاء صيفي مع بوتين خطوة في الاتجاه الصحيح، ورغم أن إيجاد أرضية مشتركة لن يكون بالمهمة السهلة، فإن الولايات المتحدة تتمتع بسجل مثير للإعجاب في العمل مع أنظمة بغيضة عندما تختار القيام بذلك.إذا استمر بايدن في الدوران حول الاتجاهات الأيديولوجية، فإنه يجازف أيضا بإضعاف وليس تعزيز التضامن بين ديمقراطيات العالم، فالأمر ليس وكأن شركاء أميركا الأوروبيين والآسيويين يتوقون إلى الدخول في حرب مع الصين، وفي شهر ديسمبر المنصرم، وضع الاتحاد الأوروبي اللمسات الأخيرة على معاهدة استثمار مع الصين، على الرغم من اعتراضات إدارة بايدن التي كانت على وشك تولي السلطة آنذاك (وإن كان التصديق على المعاهدة في البرلمان الأوروبي يظل أمرا غير مؤكد). على نحو مماثل، نجد أن كوريا الجنوبية، واليابان، وغيرهما من ديمقراطيات آسيا في جوار الصين ليست راغبة في الدخول في مواجهة عاصفة، ويحسن بايدن صُـنعا بالامتناع عن إجبار حلفاء الولايات المتحدة على اتخاذ اختيارات قاسية. كانت نصيحة مؤسسي أميركا أنفسهم تتلخص في الصبر وضبط النفس في السياسة الخارجية، وكانت الولايات المتحدة قادرة منذ أمد بعيد على الاعتماد على قوة نموذجها لجلب بلدان أخرى إلى الحظيرة الديمقراطية، والآن يتعين عليها أن تعود إل هذه اللعبة الطويلة الأمد، وإن أفضل طريقة تنشر بها الديمقراطيات قيمها تتمثل في ترتيب المنزل من الداخل، حتى يتسنى لها في نهاية المطاف التغلب على القوى غير الليبرالية من خلال التفوق عليها في الأداء. يجب على الولايات المتحدة وحلفائها الديمقراطيين أن يستمروا في التصدي للتهديدات التي تفرضها الأنظمة الاستبدادية؛ ولكن يتعين عليها أيضا أن تحجز مكانا للتعاون في التصدي للتحديات العالمية.* كبير زملاء مجلس العلاقات الخارجية، وأستاذ الشؤون الدولية في جامعة جورج تاون، ومؤلف كتاب «الانعزالية: تاريخ جهود أميركا لحماية ذاتها من العالم».
مقالات
تصحيح مسار سياسة بايدن الخارجية
24-05-2021