تمثّل ظاهرة الاعتداء على حقوق الآخرين العلمية والأدبية تداعيات خطيرة في الحقل القانوني والأمني والتجاري والإبداعي والحضاري في ظلّ حركة إنتاج عارمة، فالملكية الفكرية، وهي نتاج عقل الإنسان وإبداعاته، مثل الاختراعات والعلامات التجارية والأغنيات والكتب، تشهد انتهاكاً صارخاً رغم القوانين الصارمة، مما يستدعي من ذوي التخصص والخبرة وضع الحقوق الفكرية في حماية شاملة وفق الأنظمة والقوانين والتشريعات.وفي ظل تصاعد ملحوظ للتجاوزات والاعتداءات على الأعمال العلمية وحقوق أصحابها، فتحت "الجريدة" هذا الملف الشائك وطرحت على أصحاب التخصص في مجال حقوق الملكية الفكرية تساؤلات عدة، منها إذا كانت الكويت وضعت قانوناً صارماً لحماية حق المؤلف والحقوق المجاورة، فلماذا لا يطبّق؟ وما سبب استمرار الانتهاك الصارخ له؟ ثم كيف تؤثر الانتهاكات على المبدعين؟ وهل توجد ضمانات لعدم سرقة ملكية الأعمال؟، وما أهم الاقتراحات والحلول؟
فيما يلي التفاصيل.أكد شيخ الملحنين، أنور عبدالله، أن حقوق الملكية الفكرية في الكويت متوافرة ليس الآن فقط، لكن منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، وشملت تحت مظلتها حماية حقوق الملكية الفكرية للشاعر الغنائي والمؤلف الموسيقي والمطرب والملحن.
الكويت رائدة
وأضاف عبدالله أن الكويت رائدة في مجال حماية حقوق الملكية الفكرية من ناحية وضع التشريعات المنظمة للعملية الفنية أو تطبيقها، وهو ما كان له إسهام واضح في ظهور الكثير من شركات الإنتاج الفني التي تعمل بمأمن تحت مظلة هذا القانون، وكان لذلك دور واضح في دعم الحركة الفنية ككل، ليظهر عدد كبير من الشعراء والمطربين والملحنين.واستطرد: "وعلى الرغم من ذلك ظهرت انتهاكات واضحة لحقوق الملكية الفكرية للمبدعين في المجال الفني، ونتيجة لذلك فأغلب شركات الإنتاج الآن في الكويت توقّفت عن إنتاج الأغنيات والألبومات الغنائية، بعد انتشار عمليات السطو على الأغنيات والألحان، والتي أصبحت أكثر سهولة في عصر الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي".تسريب الأغنيات
وأوضح عبدالله أن بعض الأغنيات يتم تسريبها عبر مواقع التواصل بعد دقائق من تسجيلها، فيتكبد المنتج عناء إنتاج العمل ودفع الأجور، وفي ثوان يتم إهدار كل حقوقه بانتشار الأغنية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، والدليل على ذلك أن الفنانين توقّفوا في السنوات الأخيرة عن إصدار ألبومات غنائية، وأصبح التوجّه نحو الأغنية الفردية أو "السينغل"، التي يساهم نجاحها وانتشارها في الترويج للفنان وزيادة الطلب عليه في الحفلات، وفي الوقت نفسه يكون بمأمن من سرقة حقوق ألبومه".حق المؤلف
من ناحيته، قال المحامي أحمد الهندال إن قانون الملكية الفكرية موجود في الكويت من خلال قانون حق المؤلف، الذي صدر عام 2016، ثم ألغي بعد صدور قانون عام 2019 ليتضمن جميع ما يخص الملكية الفكرية، وذلك تحت عنوان قانون حق المؤلف والحقوق المجاورة له.وأضاف أنه على الرغم من وجود القانون فإننا اعتدنا في الكويت خلال السنوات الأخيرة انتهاكه، وأن الملكية الفكرية والعلامات التجارية والأفكار الجديدة أمور مستباحة بشكل كامل، حتى أصبحت عادة مجتمعية راسخة، مع الأسف. وأشار الهندال إلى أن المحاكم تنظر العديد من قضايا انتهاك حقوق الملكية الفكرية، التي يعاني أصحابها السطو على أفكارهم أو أعمالهم ومؤلفاتهم، فيلجأون لساحات القضاء لاسترداد حقوقهم المسلوبة، استنادا إلى القانون المعمول به في هذا الجانب.قصور القانون
وأكد أن السبب في تلك الفوضى هو قصور في القانون نفسه الذي أغفل جزءا كبيرا من عمليات حق المؤلف وحقوق الملكية الفكرية بشكل عام، وبالتالي فالقانون ذاته لم يحسم بوضوح لمن تؤول حقوق الملكية الفكرية.وطالب الهندال بأن تخطو الدولة خطوات أكبر من التي نراها الآن، وخاصة أن الكويت أصبحت أكثر دولة تشهد انتهاكا لحقوق الملكية الفكرية، ومظاهر هذا الانتهاك واضحة بكل مكان وعلى مستوى المجالات كافة، وفي الشوارع والأسواق والصحف، حتى أن بعض نواب مجلس الأمة يقومون بسرقة مقالات أو غيرها وينسبون هذا الفضل لأنفسهم، كما يتعرّض بعضهم لعملية السرقة ذاتها، الأمر نفسه بالنسبة للكتّاب الصحافيين.مشكلة أخلاقية
من جانبه، أشار رئيس تحرير مجلة العربي، إبراهيم المليفي، إلى وجود مجموعة من القوانين المنظمة لحقوق الملكية الفكرية بالكويت، مشددا على أن عدم وجودها يعدّ مشكلة كبيرة، لأنها قضية واسعة ومتشعبة تضم العديد من مناحي الإنتاج والإبداع كالنصوص والأفكار والألحان والتصاميم وغيرها الكثير.ورأى المليفي أن انتهاك حقوق الملكية الفكرية من البعض ضد البعض الآخر دليل واضح على وجود مشكلة أخلاقية تسمح لأصحاب النفوس الضعيفة بالاستيلاء على إنتاج الآخرين ونسبته إلى أنفسهم، ولذلك جاءت العقوبة رادعة لهؤلاء المزيفين، حفاظا على المجتمع وأبنائه من المبدعين الخلاقين للأفكار والمشروعات البناءة.جفاف الأفكار
وأوضح أن الاستيلاء على الأفكار يشير إلى مشكلة أخرى بالمجتمع، هي جفاف الأفكار وقلّة الإبداع لدى البعض، وهو مؤشر خطير خاصة بالنسبة إلى الكويت التي ظلّت سنوات طويلة قائدة لمنطقة الخليج فنيا وإبداعيا وثقافيا، باعتبارها منارة للفكر، ولكن هذا التراجع الملحوظ في الأفكار دلالة واضحة على نضوب هذا المنهل الذي أضاء الكويت والخليج والمنطقة لعقود.واستنكر المليفي الطرق التي يتم بها سرقة الأفكار، والتي تنمّ عن كمّ كبير من التحايل، على سبيل المثال يبحث أحدهم عن تصميم شعار لمنتج ما، فيدير دفّته إلى قارة أو بلد بعيد عن المنطقة، ويقتبس شعارا جاهزا لأحد المنتجات، وهو يعلم أنه من الصعب مثلا أن يكون أحد قد رآه من قبل، نظرا للمسافة البعيدة بين البلدين، كأن يذهب ببحثه إلى أميركا الجنوبية مثلا.مؤشر خطير
وأكد المليفي أن هذا السلوك يعد جرأة كبيرة ومؤشرا خطيرا على المستوى الأخلاقي والإنتاجي الذي وصل إليه البعض ممن يستحلّون مجهود الآخرين، فينسبونه إلى أنفسهم دون رادع أخلاقي أو قانوني.وذكر أن إحدى حوادث السطو وقعت ضحيتها إحدى المؤسسات العريقة، والتي تنظم فعاليات كبرى تمتد لعام تقريبا، حيث اضطرت إلى تغيير الشعار الخاص بالفعالية، بعد فوز صاحبه بجائزة التصميم، لكن تم التراجع عن الجائزة والاعتذار للجمهور بعد اكتشاف السرقة، ليس هذا فحسب، بل إن هناك كتبا بالكامل يتم نسخها، فهل يمكن لنا أن نتخيل أن كتابا بمجمله يتم قرصنته من الصفحة إلى الصفحة؟!حالة عامة
ولفت إلى أن مسألة حقوق الملكية الفكرية أخلاقية بالدرجة الأولى، ومع الأسف الشديد باتت هذه الانتهاكات حالة عامة مسيطرة على المجتمع، وربما إذا كان الأمر بسيطا كحالة أو حالتين لم نكن نحتاج إلى قانون أصلا، لكن الظاهرة أشد اتساعا من ذلك.وقال إنه ليس من المتوقع في مرحلة من المراحل أن يكون الوضع مثاليا، أو خاليا من التجاوزات الأخلاقية أو القانونية، لكن الهدف هو تقليل هذا الخطأ والشر، ومجابهة هذا المستوى المتدني من الممارسات إلى حدود قليلة جدا، مع وجود آليات تسهّل عملية كشفها.تشديد العقوبة
من ناحيتها، رأت الباحثة القانونية بالمكتبة الوطنية، خولة العنزي، أن انتهاكات حقوق الملكية الفكرية شهدت تراجعا واضحا في الآونة الأخيرة، بالتزامن مع صدور القانون المعدّل رقم 75 لعام 2019، وباتت تلك الحقوق أكثر ضمانا في ظل قانون أكثر فاعلية وأمانا.وأوضحت العنزي أن القانون الجديد شدد عقوبة انتهاك حقوق الملكية الفكرية، كما ساهم في زيادة الوعي لدى المؤلفين والمبدعين والمفكرين بكل المجالات الإبداعية، وكان لذلك أثر واضح على تراجع حجم الانتهاكات التي كنّا نشهدها في السابق.وأكدت أن القانون يمنح غطاء كافيا للحماية، مادام العمل غير مخالف للنظام والآداب العامة، لكنّ التوثيق في إدارة حق المؤلف قسم الإيداع هو زيادة توثيق للعمل لينسب إلى صاحبه، وفق شهادة إيداع أو مصنّف يحمل اسمه، لكن الحماية التي يكفلها القانون لا تحتاج إلى إثبات من المؤلف أو صاحب العمل.سرقة الجهد
من جانبه، قال عضو هيئة التدريس بجامعة الكويت، د. عماد خورشيد، إن حقوق الملكية الفكرية لأي بحث أو مقال ينشر أصبح من الممكن التحقق منه ومن مصادره بسهولة في السنوات الأخيرة، إذ أصبح الأمر ميسّرا بخلاف السابق، مؤكدا أن نسبة الضمان قد تصل الآن إلى نسبة 99 بالمئة في ظل ثورة المعلومات والتكنولوجيا التي نعيشها، حتى أصبح من الممكن التأكد بفضل برامج حديثة توفّر قاعدة بيانات ضخمة، الكشف عن المقال أو النص، وهل هو جديد أم منقول أم مسروق من عدمه، وهل تم نشره ونسبته لأحد الأشخاص من قبل، أم بالفعل هو عمل جديد ومبتكر.وأضاف خورشيد أنه على الرغم من ذلك، لا يزال البعض يجيد ويحاول التلاعب بجهود الغير، فبعض الباحثين يقدّمون أبحاثا علمية منسوبة إليهم دون أن يبذلوا جهدا في البحث أو جمع المادة، بل قام بها غيرهم نيابة عنهم، لأنه غالبا ما يتم بالتراضي بين الطرفين مع وجود مقابل مادي، وهو أمر أصبح سهلا عمله وفي المقابل يصعب كشفه.القدوة السيئة
وذكر خورشيد أن الحالات الموجودة لا تتجاوز الـ 5 بالمئة، ورغم أنها نسبة ضئيلة، فإنها مشكلة يجب التصدي لها، لأنّها تصدر من أشخاص في مناصب عليا، وربما ساعدهم سلوكهم من السطو على الأفكار أو نسبة أعمال بحثية لأنفسهم قبل 20 عاما تقريبا في التدرج الوظيفي والحصول على تلك المناصب، والأخطر من ذلك أنهم مسؤولون عن تنشئة جيل جديد من الباحثين، وهنا تكمن الخطورة في القدوة السيئة التي تربي أجيالنا الجديدة وتنشّئهم.وأكد أنه من السهولة التعرف إلى أعضاء هيئة التدريس الذين تقلّدوا مناصبهم دون وجه حق اعتمادا على أبحاث ودراسات لم يبذلوا بها جهدا، فهم غالبا يكونون بمعزل عن الحياة العلمية، غير موجودين بالشكل الطبيعي، وليس لهم حضور وسط الطلبة، وليس لديهم باحثون بالدراسات العليا للماجستير والدكتوراه، ولا يشاركون في مؤتمرات علمية، وفجأة يقدّم بالسنة 5 أو 10 أبحاث علمية.شراء الأبحاث
وكشف خورشيد أنه تلقّى معلومات حول أن بعض الأساتذة يتعاونون مع باحثين في بلدان مثل ماليزيا وإندونيسيا وإيران لنشر أبحاث تنسب إليهم كـ Single Author في إحدى المجلات العلمية المرموقة، ليصنف البحث باسمه دون أدنى جهد، مقابل دفع 4 آلاف دولار للشخص.ولفت إلى أن الهيئة العامة لمكافحة الفساد تتميز حاليا بوجود قسم للتحقيق في الأبحاث المسروقة، لكن لا يزال من الصعوبة إثبات تقديم الباحثين أبحاثا لم يبذلوا فيها مجهودا إذا كانت تحمل اسمهم.وطالب خورشيد القائمين على "التعليم العالي" وإدارة الجامعة النظر في نظام إعادة الترقيات بصورة تضمن أن الباحث الفعلي هو من نفّذ هذه الأبحاث، بأن تتم مناقشته في أبحاث الترقية مثلا وعددها 5 أبحاث، كما يتم مناقشته في أبحاث الماجستير والدكتوراه، لكشف التلاعب، ومن خلال المناقشة العلمية سيتضح جيدا إذا كان عضو هيئة التدريس على دراية بما قدّمه من أعمال أم لا، حيث إن بعضهم لا يدري عنوان أبحاثه الخاصة بالحصول على الترقيات!