زاد التقارب في العلاقات الإسرائيلية الصينية بدرجة غير مسبوقة في العقود الأخيرة، فنشأت معاقل ابتكار جديدة وكان البلدان يتطلعان إلى الاحتفال بثلاثين سنة من العلاقات الدبلوماسية في السنة المقبلة، كذلك، استقبل الرئيس رؤوفين ريفلين السفير الصيني الجديد تشاي ران في أبريل الماضي، لكن الجدل الأخير حول الحرب المحتدمة بين إسرائيل وحركة «حماس» في غزة أدى إلى صدور تعليقات قاسية من الصين، وكان بعضها موجهاً ضد الولايات المتحدة، واستهدفت معظم الانتقادات إسرائيل وكانت أكثر صرامة من أي وقت مضى.في 16 مايو، أعلن وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، أن الولايات المتحدة تعوق محاولة مجلس الأمن اتخاذ موقف موحّد من تحركات إسرائيل في غزة، ووفق شبكة تلفزيون الصين الدولية، اعتبر يي أن الصراع المتصاعد بين إسرائيل والفلسطينيين أدى إلى سقوط عدد كبير من الضحايا، ولم يذكر هذا الموقف شيئاً عن إقدام «حماس» على إطلاق الصواريخ تجاه إسرائيل.
أعلنت الصين أن وقف إطلاق النار يبقى على رأس الأولويات في الوقت الراهن، فقد ذكر تقرير شبكة تلفزيون الصين الدولية ما يلي: «تدين الصين بشدة أعمال العنف ضد المدنيين وتدعو طرفَي الصراع مجدداً إلى وقف الأعمال العسكرية والعدائية فوراً ووقف التحركات التي تزيد الوضع سوءاً، بما في ذلك الضربات الجوية والاعتداءات الهجومية الميدانية والعمليات الصاروخية، ويجب أن تمارس إسرائيل تحديداً ضبط النفس».لم يكتفِ البيان الصيني بعدم ذكر الاعتداءات الصاروخية التي أطلقتها «حماس» ووصل عددها إلى أربعة آلاف، بل إنه دعا إسرائيل أيضاً إلى فك الحصار عن غزة وضمان سلامة الفلسطينيين وحقوقهم في الأراضي الفلسطينية المحتلة، لكن هذا الموقف لم يوضح إذا كانت غزة جزءاً من هذه الأراضي.من الواضح أن الصين أرادت أن تؤدي دوراً قيادياً في هذا الملف، فدعت الولايات المتحدة إلى تحمّل مسؤولياتها واعتبرت واشنطن الجهة الوحيدة التي تدافع عن إسرائيل ولا تسمح لمجلس الأمن بإدانة التحركات الإسرائيلية، وكررت الصين أيضاً موقفها الداعم لحل الدولتين.كذلك، ذكرت هذه التصريحات أن بكين تدعم الشعب الفلسطيني واقترحت حضور «صانعي سلام من فلسطين وإسرائيل» إلى الصين لإطلاق حوار بين الطرفين.وفي خطوة أخرى مثيرة للجدل، اتُهِم مذيع على شبكة تلفزيون الصين الدولية بإطلاق تعليقات مضادة لليهود ولم تقف المشكلة عند هذا الحد، فقد قال المذيع تشنغ جون فنغ إن «السياسة الأميركية الموالية لإسرائيل تعود برأي البعض إلى نفوذ اليهود الأثرياء في الولايات المتحدة ووجود اللوبي اليهودي وسط صانعي السياسة الخارجية الأميركية»، ثم انطلق من هذه الفكرة ليقول إن الولايات المتحدة تنافس الصين وتعتبر إسرائيل حصناً لها في الشرق الأوسط.
المشهد العالمي يتغير
وفي تقرير حول الصراع الأخير، ذكرت كاريس ويت، المديرة التنفيذية في «سيغنال»، «الشبكة الصينية الإسرائيلية العالمية والقيادة الأكاديمية»، أن «الصين لم ترفع الصوت لهذه الدرجة في الصراعات الماضية التي شملت إسرائيل».لكن المشهد العالمي بدأ يتغير، وأخذت الصين تتجه إلى تغيير مكانتها وطرح نفسها كمتحدثة باسم المجتمع الدولي كجزءٍ من محاولتها تعديل شكل الحوكمة العالمية كي تناسب نظامها ومصالحها، وتبدو تعليقات الصين مُصممة لاستمالة معسكر اليسار المتطرف في أوساط الرأي العام العالمي الذي يتابع الحرب الراهنة بين إسرائيل وغزة عبر اتخاذ الموقف الأميركي التقليدي من هذا الملف.إنه تطور مهم لأن إسرائيل زادت اهتمامها بتوثيق علاقاتها مع الصين في العقود الأخيرة، وفي عام 2012، ذكرت وزارة الخارجية الإسرائيلية أن إسرائيل والصين تستذكر اليوم عشرين سنة من العلاقات الدبلوماسية، كما تولي إسرائيل اهتماماً كبيراً لتعزيز روابطها مع الصين كونها ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم وعضوة في مجلس الأمن ولاعبة أساسية في آسيا وعلى الساحة الدولية، وتعبّر إسرائيل عن إعجابها بالتطور الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي الذي رافق النمو الصيني في العقود القليلة الماضية.كانت الصين تملك مصالح كبرى في إسرائيل وأبدت اهتمامها بسماع الأصوات الإسرائيلية، وفي الوقت نفسه، بدأت الولايات المتحدة تتصدى للعلاقات الإسرائيلية الصينية وحذرت من نقل التكنولوجيا أو احتمال عقد اتفاق حول ميناء حيفا ومشاريع بنى تحتية أخرى قد تتخذ أهمية استراتيجية، لقد كانت الصين من جهتها تفكر بمبادرة «الحزام والطريق» وتتكلم دوماً عن دور إسرائيل فيها.لكن الوضع تغيّر في السنوات الأخيرة، فأصبحت الولايات المتحدة أكثر عدائية تجاه الصين علناً والعكس صحيح، وزادت قوة الصين البحرية وتوسّع تدخلها في شؤون العالم، كذلك وقّعت الصين على اتفاق جديد مدته 25 سنة مع إيران.قد تحصل تغيرات كبرى فيما يتحول العالم اليوم إلى مكان متعدد الأقطاب، وتملك الصين وروسيا وإيران وتركيا مصالح متداخلة، ومن المعروف أن إيران وتركيا تعاديان إسرائيل.الصين ليست عدائية لكنها تملك مصالح متعددة وقد ينشأ جدل حول نظرتها إلى إسرائيل تزامناً مع توسّع دورها العالمين لكنّ تعليقاتها حول تحالف إسرائيل مع الولايات المتحدة تضعها في المعسكر المعارض، ومن اللافت أيضاً أن تعلو أصوات وسط الديمقراطيين اليساريين المتطرفين في الولايات المتحدة للمطالبة بوقف المبيعات العسكرية والمساعدات إلى إسرائيل باعتبارها دولة عدوّة.هذا الوضع يضع إسرائيل في موقف محرج لأنها تريد أن تؤدي دوراً محورياً مع الاقتصادات الآسيوية الناشئة، كما تريد الولايات المتحدة في المقابل أن تبقى إسرائيل بعيدة عن الصين لكن التزامات واشنطن بشؤون المنطقة لا تزال غير واضحة.كانت معظم تعليقات الدول التي تهاجم إسرائيل في الأمم المتحدة طوال عقود مجرد مواقف شفهية، لكن هذه النزعة العامة ترافقت مع جولات متنوعة، فكانت سيئة خلال السبعينيات ثم تحسنت في التسعينيات وساءت مجدداً بعد عام 2000، ثم بدا وكأن عزلة إسرائيل قد تتغير في السنوات الأخيرة مع ظهور شركاء جدد في جهود السلام، فلا تحمل الدول الآسيوية سجلاً معادياً للسامية كي يستغله الغرب وقد تكون أكثر انفتاحاً على إسرائيل وهي كذلك بشكل عام. لكن طريقة تعامل دول الشرق الأوسط مع المسائل الإسلامية والقضية الفلسطينية لابتزاز الدول الأخرى ودفعها إلى معاداة إسرائيل لا تزال تطرح تحدياً كبيراً.سلاح النفط
استعملت الدول العربية سلاح النفط بهذه الطريقة وحاولت إقناع الغرب بالابتعاد عن إسرائيل بين الخمسينيات والثمانينيات، لكن تبدّل هذا الوضع وجاءت اتفاقيات السلام لتغيّر الظروف القائمة أيضاً.اليوم، تُعتبر إيران وتركيا من أبرز الأصوات المعادية لإسرائيل، حيث تريد تركيا إنشاء تحالف إسلامي مع ماليزيا وباكستان اللتين تطلقان تعليقات معادية للسامية في مناسبات متكررة، وعلى الجانب الآخر، ترتبط إسرائيل بعلاقات حسنة مع الهند وسنغافورة وكوريا الجنوبية وفيتنام ودول أخرى مثل أستراليا واليابان، لكن علاقات الهند مع الصين تبقى متوترة عموماً، وبالتالي لا مفر من أن تتأثر الاتفاقيات العسكرية الإسرائيلية الضخمة في الهند بالروابط مع الصين.يرتكز الجدل الراهن على مسألتين أساسيتَين: في المقام الأول، كانت التعليقات الصينية تستهدف الولايات المتحدة أكثر من إسرائيل على ما يبدو، فقد أعلنت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية، هوا تشونينغ، أن الولايات المتحدة تتجاهل معاناة المسلمين، وكان هذا الموقف يتعلق فعلياً بالعلاقات الصينية الأميركية والاتهامات الأميركية ضد تعامل الصين مع المسلمين أكثر مما يرتبط بإسرائيل.يتعلق عامل مؤثر آخر بإقدام رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، على تركيز جميع الصلاحيات في منصبه مقابل تفريغ وزارة الخارجية، مما يعني أن معظم التطورات في إسرائيل ترتبط بنتنياهو شخصياً، هل أنذرت إسرائيل دولاً مهمة مثل الصين قبل إطلاق ضربات جوية في غزة؟ وهل حاولت إسرائيل أصلاً أن تضمن التطرق إلى تحركات «حماس» في الأمم المتحدة؟ أم أن إسرائيل لم تأخذ عناء إبلاغ أي دول بما ستفعله بل انتظرت مرور عشرة أيام على إطلاق الحملة قبل أن ترسل معلومات حقيقية عما يحصل وتستضيف دبلوماسيين أجانب؟حققت إسرائيل إنجازات مبهرة على المستوى الدبلوماسي في السنة الماضية، لكنها تعثرت هذه السنة لأن الدبلوماسية تتطلب سفراء ودبلوماسيين وتقديم تفسيرات وافية، وتريد الدول الخارجية أن تتلقى معلومات متواصلة عن آخر المستجدات وتطّلع على أهداف إسرائيل الحربية.تعرّضت إسرائيل لهجوم بأربعة آلاف صاروخ، وهو اعتداء غير مسبوق، ولم تنتقد دول مثل الصين تركيا على الضربات الجوية التي أطلقتها في العراق أو سورية لأن دولاً مثل تركيا تجيد تبرير منطق تفكيرها الكامن وراء تلك الضربات، لكن لم تتمكن إسرائيل التي تحمّلت الاعتداءات الصاروخية من إقناع دول كثيرة بإدانة «حماس» أو مطالبة الحركة بوقف إطلاق النار، بل إن جميع الجهات طالبت إسرائيل بوقف إطلاق النار.وحدها الولايات المتحدة والمجر ودول قليلة أخرى أبدت استعدادها لمساعدة إسرائيل على كبح التصريحات المضادة في الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، مما يعني أن مشاكل إسرائيل مع الصين قد تكون أعمق مما تظن وترتبط بعدم بذل جهود إسرائيلية كافية لمناقشة هذه المسائل مع الصين.أخيراً، يُفترض أن تقلق إسرائيل من مبالغة الولايات المتحدة في جرّها إلى المنافسة الصينية الأميركية، ولا يعني ذلك أن إسرائيل ليست حليفة للولايات المتحدة، لكن لا أحد يعرف بعد طبيعة التداعيات التي ستواجهها إسرائيل إذا اعتُبِرت أداة في هذا الصراع بدل أن تكون مجرّد دولة مقرّبة من الغرب.