أثارت تغريدة د. عبدالكريم الكندري، عن مقال علمي نشر لي في الكويت على صفحات «الجريدة» في عددها الصادر في 9 مايو الجاري تحت عنوان «تأجيل الاستجوابات.. لماذا لم تطلب الحكومة استبعادها؟»، تغريدات أخرى استنكرت أن أكتب عن الشأن الدستوري الكويتي بعد أن غادرتها، نعم غادرت الكويت بجسدي فقط أما قلبي فلا يزال فيها، ينبض بحبها ويتغنى بدستورها.والبحث العلمي لا يعرف حدوداً، والعلم ليس له جنسية، فضلاً عن أن العالم الآن قد أصبح قرية كونية تتناقل فيها الأنباء والأخبار بسرعة البرق، وقد سبق أن كتبت مئات المقالات وعشرات الدراسات الدستورية في المجلات العلمية والصحف الكويتية منذ صدورها قبل أربعة عقود مضت (القبس) و(الوطن) و(السياسة) و(الأنباء)، فضلا عن صحيفة (الجريدة)، واختلفت فيما كتبت مع الخبراء الدستوريين من كويتيين وغيرهم ومع أعلامها وقادتها السياسيين وكتابها، والذين كانوا يتقبلون الرأي الآخر بصدر رحب.
نعم غادرتها واعتذرت عن عدم استمرار العمل للظروف الصحية التي ألمت بي، وكتبت المقال وأنا على فراش المرض في مصر، أتابع ما يجري في الكويت من أحداث وقضايا دستورية، في تجربة ديمقراطية رائدة وواعدة انفردت بها الكويت عن سائر دول المنطقة، ولكنها تلقي بإشعاعاتها على هذه الدول، وهي كغيرها من تجارب ديمقراطية محل بحث وتمحيص علمي في مراكز الأبحاث العلمية في أوروبا وأميركا، كما يتناول الخبراء القانونيون والكتاب الكويتيون في صحافتهم، تجارب الدول الأخرى، مثل التجربتين الأميركية والفرنسية، اللتين خاضت فيهما في الآونة الأخيرة كثير من الأقلام الكويتية حول حقبة ترامب، وحقبة بايدن، والثورة البرتقالية في فرنسا.فالحديث عن التجربة الديمقراطية في الكويت وعن الرقابة الذاتية التي يمارسها برلمانها في حقوق الدستور وهي محور المقال محل هذه التغريدة، هو أمر يزيد المكانة الدولية لها ولا يقلل منها، فالحديث عن هذه التجربة وتناولها بالتحليل العلمي الذي لا يشين الكويت ولا يسيء إليها بل يثري هذه التجربة ويزيدها نضوجا، ويحول دون التراجع عنها، وأذكر في هذا السياق أن المستشارة الألمانية ميركل كانت ترفض حتى وقت قريب مقابلة أي رئيس حكومة دولة ليس لديها برلمان.دستور وتجربة ديمقراطية مفخرتان للكويت نعم من حق الكويت أن تعتز بدستورها، وأن تباهي به دول العالم، فهو وثيقة تقدمية لحقوق الإنسان، لا يقتصر على حقوق المواطن السياسية وحدها، كما فعلت الدساتير المعاصرة له ولا تزال، فيما عدا الدول الاشتراكية، بل جاوزها إلى الاعتراف بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية للمواطن، وكان أسبق من الأمم المتحدة في الاعتراف بها والذي جاء الأخير متأخراً في عام 1964. ومن حق الكويت أن تعتز بتجربتها الديمقراطية وتفخر بها وبثوابتها الثلاثة الأساسية، حرية الرأي وحق التعبير عنه، وأن الشعب يحكم نفسه بنفسه، من خلال تمثيل صحيح له عبر انتخابات حرة نزيهة تحت إشراف قضائي كامل، وتعتبر تجربة الكويت الديمقراطية الأولى من نوعها في منطقتنا العربية، عايشتها أربعة عقود أو يزيد قليلا، أكتب عنها ما لها وما عليها، وأحلل فيها ما يجري على ساحتها السياسية من جدل ساخن حول تطبيق نصوص الدستور وتفسيرها.وليست هذه هي المرة الأولى التي أغادر الكويت وقلبي ينبض بحبها، فقد غادرتها في عام 1987، وعندما وقع الغزو في الثاني من أغسطس سنة 1990، كنت ضمن النخبة من الخبراء والمستشارين المصريين، الذين غادروا الكويت وقلوبهم لا تزال تنبض بحبها، والتي تسابقت أقلامها في الدفاع عن الحقوق المشروعة للكويت في احترام سيادتها على أرضها، وفي دحر هذا العدوان.ومن بين ما كتبته عن الكويت خلال هذه الفترة وأنا بعيد عنها مقال نشر لي على صفحات مجلة أكتوبر المصرية في عددها الصادر في الثامن عشر من نوفمبر سنة 1990 تحت عنوان «زائر الفجر حسين» أجتزئ منه بعض ما جاء فيه، فقد شبهت فيه صدام حسين بزوار الفجر في المنطقة العربية، وقلت إن صدام تفوق على زوار الفجر من حماة نظامه، وعلى زوار الفجر في النظم الدكتاتورية، ليروع أمن شعب بأكمله ولينتهك حرمة وطن بأسره ويزيل بمنطق القوة دولة ذات سيادة، هي عضو بالأمم المتحدة وهي عضو بجامعة الدول العربية، بل روع بغزوه الفاجر أمن أكثر من شعوب ثلاثين دولة، يعيش مواطنوها في الكويت في أمن وسلام ومحبة، يؤدون فيها عملهم بحثا عن أجر طيب يؤمنون به مستقبل أسرهم وأولادهم، فقد احتجز هؤلاء ليروع أمن الشعوب التي ينتمون إليها، وليبتز من حكامها تأييداً لغزوه الفاجر.لقد كانت النخبة المصرية ولا تزال من علماء وخبراء ومستشارين وأطباء ومهندسين سفراء للكويت في بلادهم وخارجها، وهو ما تحرص عليه الدول المتقدمة، بالنسبة إلى من كانوا يعملون فيها، فتظل على تواصل معهم، حريصة على أن يكونوا على علم بمجريات الأمور بها تتواصل معهم ليظلوا سفراء لها في الخارج، يدافعون عن قضاياها. مدين للكويت بالكثير يقول المولى عز وجل «لا تنسوا الفضل بينكم»، وأنا مدين للكويت بالكثير من أفضالها، ومنها أنها التي صقلت ثقافتي وخبرتي الدستورية والقانونية، فمن خلال عملي فيها، عايشت الحراك الدستوري والسياسي كل يوم، والذي لا يهدأ ولا ينقطع، فقضيت ما قضيت من سنوات في هذا البلد وبين هذا الشعب الطيب، أبحث وأدقق وأمحص في كل نص دستوري، من دستورها الذي انبهرت به، فأخرجت من المؤلفات في القانون الدستوري: المراسيم بقوانين، ومعضلة التوفيق بين سيادة الدستور وسيادة الأمة، والحراك الدستوري والسياسي حول انتخابات الرئاسة، والدستور الكويتي، قد طبعت منه خمسة آلاف نسخة نفدت جميعا، وأزمة المحكمة الدستورية، والخطايا العشر في دستور العصر، في مصر.عودة الى التغريدة الأولى ولا يفوتني أن أشير إلى أن تغريدة د. عبدالكريم لم تحتوِ على رأي علمي، أو نقد نزيه للرأي الوارد في مقالي أو رد عليه، بما يناسب مكانة صاحبها العلمية، بل بدت لكل ذي بصيرة دعوة إلى كراهية صاحب المقال والتحريض عليه، وهو ما ألزمنا بالإمساك عن الرد عليه.وقد أخرج البحث العلمي عن مجراه الطبيعي ليلقي به في منعطفات تقصيه عن تحقيق أهدافه وتجعل أمره فرطاً، لولا افتراؤه عليّ بالقول المرسل بأنني شرعنت المخالفات الدستورية، فليسأل شقيقه الأخ الفاضل د. فيصل الكندري، والذي أكن له كل احترام وتقدير، وقد عملنا معا لأكثر من عشر سنوات، من الذي كتب دراسة علمية ونقدية على صفحات (الجريدة) في 26 يونيو سنة 2016، عن القانون الصادر بتعديل قانون الانتخاب والذي يحرم حق الانتخاب كل من أدين في إحدى جرائم الإساءات الثلاث، وانتقدت بوجه خاص الأثر الرجعي لهذا القانون، الذي يبدو من ظاهر النص، الذي استخدم صيغة الماضي، دون المضارع وهو الأمر الذي كان موضوع طعن انتخابي أمام المحكمة الدستورية في الانتخابات الأخيرة، ودراسة أخرى نشرت على صفحات (الجريدة) في سبعة أعداد منها في أبريل ومايو 2018 عن قانون حظر تعارض المصالح، وبينت فيها المثالب الدستورية في كل نصوصه، وقد أيدت المحكمة الدستورية رأيي في شهر مايو من العام التالي والتي قضت بعدم دستوريته.وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.
مقالات
في ظلال الدستور: غادرت الكويت.. وقلبي ينبض بحبها!
30-05-2021