سنظل ويظل العالم، زمناً طويلاً، يذكر انتفاضة شباب الأقصى وحي الشيخ جراح على منع الصلاة في المسجد الأقصى، وعلى محاولات تهجير العرب من القدس ومصادرة أملاكهم، كما يذكر الحرب على أطفال غزة وشيوخها ونسائها وحجَرها وشجرها وما تحت أرضها، للمرة الرابعة في غضون سنوات قليلة.

كما سيظل العالم يذكر كيف اتّحد وتضامن الفلسطينيون، على امتداد فلسطين التاريخية، بمن فيهم الفلسطينيون الذين ليس لديهم جنسية غير الإسرائيلية.

Ad

وما قصّرت بعض الأطراف العربية في التضامن والمساعدة بشتى السبل والوسائل، وعلى وجه الخصوص العمل الحثيث لمصر والسعودية، والأردن وتونس العضو العربي في مجلس الأمن.

لكنّ الجمهور العربي والفلسطيني كان ينتظر من أشقائه العرب أكثر من ذلك بكثير مجتمعين وممارسين للحراك السياسي والدبلوماسي، سواء بمواجهة الحرب على فلسطين حالياً وفي السنوات الماضية، كما في سائر الأزمات التي تعاني منها دولٌ عربية مثل العراق وسورية ولبنان وليبيا واليمن من الهيمنة عليها ومصادرة قرارها الحر.

صحيحٌ أنّ هناك اهتماماً من طرف عربي أو أكثر بعدد من الأزمات العربية المتفاقمة، لكنّ الجهد المشترك كما سبق القول ما يزال غائباً أو ضعيفاً، وهو مما يزيد حدّة الاختلال في التوازن الاستراتيجي في المنطقة العربية.

ففي كل أزمة من هذه الأزمات، بما في ذلك القضية الفلسطينية، يتم تقاذف الأسباب ويتراوح الأمر بين العدوان الإسرائيلي المدمر والمستمر، والتدخل الإيراني الفاقع والمهيمن في أكثر من قطر عربي، وكذلك الوجود التركي والروسي، ومن وراء ذلك أجندات إقليمية ودولية تتصارع وتنقسم فيما بينها بشأن إنفاذ القرارات الدولية، واستعادة الاستقرار، وترميم هياكل الدولة الوطنية وإعادة الإعمار في هذا البلد المنكوب أو ذاك.

وفي طليعة ذلك كلّه تأتي القضية الفلسطينية، وهي قضية الخروج من الاحتلال الإسرائيلي وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة بحدود الرابع من يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية. لا يجوز أن تضيع هذه القضية الجامعة لكل العرب والمسلمين في العالم في حمأة هذا الاجتياح الأخير، وأن يقتصر الجهد العربي والدولي على توفير هدنة عسكرية بين حربين.

ليس عيباً بالطبع اللجوء إلى المجتمع الدولي، وبخاصة في قضية فلسطين، لكنّ الجهد العربي من أجل فلسطين وغيرها يُصبح أفعل ومُقدَّراً بشكل أكبر، ونافعاً أكثر للفلسطينيين إذا كان مشتركاً على 3 مستويات: مستوى التأثير على المجتمع الدولي، ومستوى التأثير على دول وجهات التدخل، ومستوى مساعدة الشعب الفلسطيني بشكلٍ مباشرٍ وجماعي.

وبطبيعة الحال، لن يكون واقعياً أن تقدر الدول العربية على التأثير السالف الذكر إلاّ من خلال: استعادة نشاط العمل العربي المشترك في إطار جامعة الدول العربية وجهاتها ومفوضياتها المختلفة، والتوافق على سياسات مشتركة تجاه قضية فلسطين وتجاه القضايا والأزمات الأخرى التي تعصف بدولنا العربية.

ودائماً في إطار "نظام المصلحة العربية المشتركة"، الذي تمكنت القمة العربية لعام 2007 من تحديد معالمه وتحدّياته بصورة غير مسبوقة، ولاسيما من خلال ما أطلق عليه "إعلان الرياض"، وهو النظام الذي يستند إلى الدعم الذي توفره مصر والسعودية ومعها دول الخليج العربي، وذلك لاستعادة القرار العربي الحرّ من قوى إقليمية وازنة تحاول السيطرة عليه.

لقد تراجع العمل العربي المشترك كثيراً نتيجة الانقسام أو التجاهل، تُجاه كل الأزمات التي تعصف بالأمة، ومنها قضية فلسطين. لكنّ هذا الانقسام أو التجاهل ما هدَّد الدول المتأزمة السالفة الذكر فقط، بل ويهدد سائر الدول العربية بتشجيعه الآخرين الإقليميين والدوليين على تحدي سيادتها واستقرارها وتنميتها أيضاً.

لذلك هناك مصلحة عربية عليا في أن تستعيد الجامعة العربية قوامَها ونشاطَها، بالتوافق الشامل أو توافق معظم الأطراف، بدعم ثابت من قبل مصر والسعودية.

لقد جرى الكلام كثيراً من قبلُ على أن العلّة تكمن في ميثاق الجامعة، الذي يرهن القرار للإجماع، أو في تقصير بعض الدول عن أداء التزاماتها. وكلا الأمرين مهم. لكنّ الأهمّ الإرادة السياسية العامة، التي لا تبدو متوافرة حتى الآن. والمعوَّلُ في نهاية الأمر على ترجمة الإرادة لا على إعلان النيّات.

والواقع أننا شهدنا في الأعوام الأخيرة نشاطاً متزايداً لمصر في شتى المجالات، التي تتعلق بمصالحها، والمصالح العربية العليا. والشاهد الأخير على ذلك قوي وواضحٌ في الحرب الإسرائيلية الأخيرة على القدس وغزة وفلسطين.

وكما تحركت مصر في فلسطين، وفي ليبيا والسودان والعراق ولبنان، فإنّ المأمول أن تتقدم مساعيها لبعث الحياة في أوصال جامعة الدول العربية، وبخاصة أنها دولة المقر أيضاً؛ إذ إنّ تعافي الجامعة وتوكيد حضورها يخدمان الأمن القومي العربي، وأمن كلّ دولة عربية، وهو الذي تؤكد السلطات المصرية بالحرص عليه وبالتدخل لحمايته، إذا لزم الأمر.

هناك الإرادة السياسية المصرية والسعودية، وهناك الحجم والقدرات. وهناك من جهة أُخرى اعتراف معظم الدول العربية بقوة كل من مصر والسعودية وإرادتهما ودورهما وقدراتهما. الجهد المصري والسعودي لتفعيل العمل العربي المشترك في القضية الفلسطينية وفيما سواها من القضايا العربية مطلوبٌ ومقدَّر.

لقد كان العقد الماضي عقداً خطيراً على الأمن العربي والاستقرار. وقد عادت القضية الفلسطينية للالتهاب، وهي أصل المشكلات جميعاً، لتثبت أنّ القضية الفلسطينية لا تزال حيّة في ضمير ووجدان العرب، مهما حاولت إسرائيل اختزال هذه القضية العربية المحقّة أو إلغاءها.

لذلك، فنحن جميعاً ننتظر مصر، التي كانت عبر تاريخ طويل واسطة العِقد العربي، كما ننتظر التعاون المصري - السعودي الحازم والحاسم والمقدَّر في صنع السياسات الفعّالة والمؤثرة، وبما يحقق النهوض العربي الوطني والسياسي والاقتصادي والثقافي، وبما يمهّد لاستعادة التوازن الاستراتيجي في المنطقة العربية. ولن يطول الانتظار بإذن الله؛ "تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً ... وإذا انفردن تكسرت أعواداً".