لا تزال العلاقات القائمة بين روسيا وبيلاروسيا تُحيّر المراقبين نظراً إلى طابعها غير المتوقع، فمنذ سنة واحدة فقط، خاض البلدان مفاوضات شاقة حول خطط تهدف إلى تحديد معالم تكاملهما، لكن أدت هذه الخطوة إلى الكشف عن اختلافاتهما المتزايدة علناً، وغداة الانتخابات الرئاسية في بيلاروسيا في شهر أغسطس الماضي والأزمة التي واجهها النظام بسببها، استُبدِل الانزعاج السابق بين الطرفين فجأةً بتعاون واضح، ودعم الكرملين رئيس بيلاروسيا، ألكسندر لوكاشينكو، خلال أكبر احتجاجات شهدها البلد في تاريخه ولا يزال يدعمه في صراعه مع الغرب.ثمة عامل واحد لم يتغير في خضم هذه التطورات كلها: الخوف من أن تستفيد موسكو من مشاكل مينسك المتزايدة لتنفيذ دمج عدائي مع جارتها كثمنٍ مقابل مساعدتها، لكن على أرض الواقع، يكشف التفاعل بين البلدين وضعاً مختلفاً بالكامل.
يبدو أن الكرملين كان أكثر اهتماماً بالحفاظ على استقرار بيلاروسيا وأحداثها المتوقعة، فقد تكون مينسك حليفة غير متعاونة لموسكو أحياناً، لكنها كانت أكثر إيجابية في هذه الظروف مقارنةً بتداعيات محاولة تعزيز النفوذ الروسي عبر زعزعة استقرار بلدٍ يحدّ روسيا.نجح لوكاشينكو في قمع الاحتجاجات وتجديد الاستقرار ومنع توسّع الشرخ داخل النخبة الحاكمة، لكن أصبح مجال المناورة الذي يملكه في مجال السياسة الخارجية اليوم محدوداً جداً، فروسيا ليست شريكة بيلاروسيا الوحيدة، بل يتعامل البلد أيضاً مع الصين ويشهد التعاون السياسي والتجاري والعسكري بين الطرفين توسعاً متزايداً، ومع ذلك، لا مفر من أن تدفع العزلة السياسية والعقوبات الغربية بنظام بيلاروسيا إلى التقرب من موسكو.بدأ هذا التوقع يتحقق منذ الآن: تشهد التدريبات العسكرية المشتركة مع روسيا زيادة ملحوظة، ويتضح التعاون بين الوكالات الاستخبارية في البلدين عبر أحداث مثل الكشف حديثاً عن خطة الانقلاب ضد لوكاشينكو، كذلك، تغيّر مسار الصادرات البيلاروسية وباتت تمر بالموانئ الروسية، حتى أن مظاهر الولاء بين الطرفين قد تترسخ عبر فتح قاعدة عسكرية روسية شاملة على الأراضي البيلاروسية، وهي خطوة قيد النقاش منذ سنوات عدة.في الوقت نفسه، لم تتغير مصالح بيلاروسيا التقليدية أو استعدادها للدفاع عنها رغم إضعاف مكانتها، ويتّضح هذا الواقع مع مرور الأيام، فقد بدأ النظام البيلاروسي يسترجع سيطرته على الوضع محلياً، وخلال المحادثات المرتبطة بتعزيز التكامل بين البلدين، تتابع مينسك المطالبة بالوصول إلى القدر نفسه من موارد الطاقة وإنهاء الضوابط التجارية، وفي هذا السياق، قال لوكاشينكو: "لا شروط متساوية، لا وحدة بين البلدين"!في مطلق الأحوال، لم تتطرق المفاوضات بعد إلى مسائل السيادة الحقيقية، أي العملة الموحدة ودمج المنظمات العسكرية، ولهذا السبب، من المتوقع أن تستمر عملية التكامل الطويلة والشائكة أحياناً، علماً أنها قائمة منذ أكثر من عشرين سنة من دون تحقيق أي إنجازات ملموسة.على صعيد آخر، ستتابع الشركات البيلاروسية الكبرى التي تتكل على الصادرات نشاطاتها في أجزاء متنوعة من العالم، وبعبارة أخرى، ستتمسك بيلاروسيا بروابطها المتعددة، ولو بصيغة معدّلة نظراً إلى مشاكلها مع الغرب، كذلك، تفرض عليها مكانتها الجغرافية وبنية اقتصادها أن تحافظ على علاقة فاعلة مع الاتحاد الأوروبي المجاور ودول الاتحاد الفردية أيضاً. عاجلاً أو آجلاً، ستتوصل مينسك إذاً إلى نسخة جديدة من التوازن بين مختلف الأطراف.نظراً إلى احتدام المواجهة بين روسيا والغرب، يبرز سؤال أكثر أهمية حول الاتفاق بين مينسك وموسكو، حيث تعرض مينسك توثيق التحالف العسكري وتأخذ بالاعتبار المصالح الروسية الاستراتيجية مقابل الاستفادة من الدعم الروسي الاقتصادي والسياسي، وقد يبدو هذا الاتفاق متناقضاً لكنه التدبير الذي ضَمِن (ولا يزال يضمن) الحفاظ على سيادة بيلاروسيا واستقلالها.
مقالات
المخاوف من دمج روسيا وبيلاروسيا غير مبررة
31-05-2021