«خاطئة» الطريق
في آخر رحلة عادت بي من إحدى البلدان الأوروبية جاورني في مقاعد الطائرة خبير أجنبي في قطاع البترول من الذين أمضوا حياتهم الوظيفية الطويلة متنقلاًً بين عدد من دول الخليج، وقد بادرته متحمساً بالسؤال عن مدى إلمامه باللغة العربية بعد هذه الفترة الممتدة التي قضاها بيننا، فأجابني متهكماً بقوله إنه لم يحفظ بالتكرار سوى عبارة وحيدة وهي "باكر إن شاء الله"!وبقدر ما صدمني ردّه وأحزنني تهكمه، بقدر ما أشعل في داخلي رغبة في نقل الحوار إلى أكبر عدد ممن يشاركني عروبتي ويشاطرني همومها ويتشارك معي القلق على مستقبلها ويعترف معي بأهمية وضرورة وسرعة العمل لغدٍ أفضل بأدوات أفعل.يتشابه الوضع في أوطاننا العربية إلى حد التطابق، ومع وجود خصوصيات محلية تميّز دولة عن أخرى وتفرّق مجتمعاً عن آخر، فإن القواسم المشتركة كثيرة، الإيجابي منها يرتبط بوحدة المكونات العرقية واللغوية والقيمية والدينية في كثير من الأحيان، أما المشتركات السلبية فمتعددة الأوجه، ومن أبرزها -على مستوى التخطيط واتخاذ القرار-: التأخر في فهم الواقع وتلمس أبعاده وتحسس خطورة نتائجه المستقبلية، التقاعس في التخطيط والفشل في تنفيذ الخطط، التردد في اتخاذ الموقف أو القرار وربطهما بأبشع نزعات التشكيك وأخطر موبقات التفريق وأسوأ استخدامات التسييس.
لقد أصبحت عبارة "خارطة الطريق" في الوطن العربي مستهلكة وغير منتجة على جميع الصُّعُد السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فلم نسمع عن نتائج إيجابية لخارطة الطريق، التي اقترحتها في بداية الألفية، اللجنة الرباعية، التي ضمت إلى الولايات المتحدة كلاً من الاتحاد الأوروبي وروسيا والأمم المتحدة، بهدف التوصل إلى حل نهائي لتسوية سلمية للقضية الفلسطينية، كما لم تفلح كل البرامج والخطط "التنظيرية" والقائمة – ادعاء أو خطأ- على ظاهرة "أفضل الممارسات العالمية"، في انتشال مجتمعاتنا مما تعانيه من تدهور على كل المستويات الاجتماعية والثقافية والتربوية وحتى الدينية. كذلك فإن كل خطط الإصلاح والتطوير فشلت في معالجة الخلل الهيكلي والتصدع البنيوي الذي تعانيه إداراتنا العامة واقتصاداتنا الكلية والجزئية.هذا الواقع العربي المرير والمشترك يقود أجيالنا القادمة في مسار شائك على غير هداية، ويفرض على قرارنا قانون ردة الفعل، ويبعثر جهودنا من خلال "خاطئة" طريق قوامها الانفعالية وركائزها المحسوبية وثوابتها "ما يريده الرئيس"، ونتائجها معروفة سلفاً. قد يتمسك المتفائلون ببعض الإنجازات التي سجلت هنا أو ظهرت هناك لمحاولة التخفيف من سوداوية المشهد، وقد يستند الطامحون إلى بعض النجاحات التي كان للعنصر الأجنبي يد ظاهرة أو خفية فيها، وقد يستنفر "المخططون" لإثبات عدم صوابية جلد الذات، وقد يغيب عن ذهن كل هؤلاء أن أولى خطوات الشفاء هي الصدق في توصيف الداء!وبإيجابية هادئة قد أشاطر أمنيات ذلك الذي ينطلق من الثابتة الإيمانية أن مع العسر يسراً ليعقل فيتوكل ويستعد فيعمل، ولكن لا يفوتني مع كل التوكل والرجاء والدعاء أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فالنظرة الواقعية والإيمانية لحاضرنا ولمستقبل أجيالنا لا تنفصل عن سنة كونية مفادها أن الصدق مع الذات هو المفتاح السحري لإصلاح ما فيها.أوطاننا وأولادنا يحتاجون منا إلى وقفة حقيقية مع واقعنا المرير، وتحسس جديّ لمآسينا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فالخروج من أزماتنا -الكثيرة والمتنوعة- لا يتطلب مجرد النجاح في إدارتها المعقدة، كما لا يقف عند حدود التباهي بالتقليل من حدة مخاطرها وسوء نتائجها، ولكن الأمر يفترض -فعلاً لا قولاً- استخلاص العبر واستقراء الدروس، وفهم التحديات وشحذ الهمم لبلوغ القمم واستعداداً للتغيير العلمي المدروس، ولو بخطوات بطيئة ولكن ثابتة.رأس الأولويات يجب أن يكون في التخطيط السليم، وبادئة المبادرات يجب أن تتمحور حول وقف الانهيار الاقتصادي، وأولى الخطوات يجب أن تكون بإصلاح المسار التعليمي، وبداية التغيير تنطلق من رشد التفكير وحسن التدبير وصواب التقرير، ذلك إن كنا صادقين مع الله ومع أنفسنا.