لا يحتاج المتابع للأوضاع الاقتصادية في الكويت أن يبذل كثيراً من الجهد في التحليل لمعرفة مدى عمق الأزمة في البلاد هذه الأيام، والتي لا تقتصر فقط على أزمة توفر السيولة المالية، مع عجز الموازنة، ونفاد النقد في صندوق الاحتياطي العام.فالكويت، خصوصاً في السنوات الأخيرة، باتت تعاني أزمة اقتصادية ليست مقتصرة فقط على الشق المالي، بل أيضاً أزمة أوسع تتمثل بغياب المشروع الواضح للدولة، بكل ما يرافقه من أبعاد إدارية وسياسية، بعد أن استهلكت خلال 20 سنة ماضية أدبيات مجموعة من المشاريع الكبرى، كخطط التنمية، ووثائق الإصلاح الاقتصادي والمالي، و"استدامة" وتوصيات اللجان العليا والفرعية والمنبثقة والمؤسسات المحلية والدولية دون تنفيذ أي منها، مع التأكيد على أن معظم هذه المشاريع لم ترق أصلاً لأن تكون مشروع دولة، فخطط التنمية الثلاث المعلنة لم تكن أكثر من تجميع لخطط متناقضة من وزارات الدولة ومؤسساتها، حتى إن ناقض بعضها الاتجاه العام للخطة، فضلاً عن غياب آليات التنفيذ، أما الوثائق الاقتصادية، فمعظمها، كوثيقتي الإصلاح 2016 واستدامة 2018، يعرض للأزمة ولا يقدم حلاً لها.
بل حتى أضخم مشاريع التنمية والبنية التحتية التي قدمتها الدولة خلال السنوات الماضية "مشروع مدينة الحرير والمنطقة الشمالية" تم رفعه من قائمة المتطلبات التشريعية في برنامج عمل الحكومة بعد وفاة صاحب الفكرة الشيخ الراحل ناصر صباح الأحمد، مما يشير إلى أن مشروعاً تبلغ قيمته مئات المليارات من الدنانير لم يكن مرتبطاً بقناعة أو دراسة بقدر ما كانت أهميته مرتبطة بوجود صاحب الفكرة، وهو أمر مؤسف يبين أن أهم المشاريع وأكبرها يمكن أن يرتبط بشخص لا خطة.
غياب وإخفاقات
لا شك أن غياب مشروع الدولة الواضح له كلفة على مختلف أوجه الحياة في البلاد، كأن يفضي هذا الغياب إلى إخفاقات في الإدارة مثل أن تتعطل المشاريع الكبرى كمشروع ميناء مبارك الكبير أو محطة الدبدبة للطاقة الشمسية، ناهيك عن التعثر في إيجاد حلول جذرية للمشكلات المزمنة كالقضية الإسكانية أو التركيبة السكانية أو رفع نسبة الإيرادات غير النفطية وصولاً إلى الفشل في ملفات يفترض أنها لا تشكل أزمة، كبطء توزيع لقاحات كورونا أو التعامل مع الأضرار، التي وقعت على أصحاب المشاريع الصغيرة و المتوسطة بسبب الجائحة.والاسوأ من الإخفاقات المذكورة أن خطط الحكومة الاقتصادية الحالية لتجاوز معضلة نفاد السيولة لا تتجاوز مجموعة من المقترحات ذات الأثر القصير - بغض النظر حتى عن كفاءتها - كالسحب من احتياطي الأجيال القادمة أو الاقتراض عبر بوابة الدين العام؛ مما يبين كيفية أثر غياب المشروع الواضح على إيجاد الحلول المستدامة.محفز الشعبوية
ومن الطبيعي أن ينعكس غياب "مشروع الدولة" بكل إخفاقاته على التشريع لجهة البحث عن المقترحات والقوانين الشعبوية، ليست فقط المرهقة للمالية العامة على المدى الطويل، إنما بما تقدمه من نسف لقيم وقواعد تمس حتى ما هو أهم من المال، مثل حملة عدد من النواب للتدخل في شكل الاختبارات المدرسية وفرض "الأونلاين" على حساب الورقية أو التراخي في تحديد معايير صرف مكافأت الصفوف الأمامية، فضلاً عن المقترحات الشعبوية المكررة التي لا يكاد يخلو منها أي دور فصل تشريعي لمجلس الأمة بشأن إسقاط القروض أو فوائدها لأو تأجيل سدادها لأو العبث بأنظمة التأمينات الاجتماعية.تضاؤل الطموحات
ولأن الكويت دولة بلا مشروع واضح؛ تضاءلت طموحات الإدارة الحكومية فيها إلى مستويات دنيا لا تليق أصلاً بالدول، فالحكومة التي همّها فقط إيجاد الموارد المالية لسداد الرواتب على المدى القصير الذي لا يتجاوز بضعة أشهر أو التي يقتصر حديثها في الإصلاح الاقتصادي على مسألة "عدم المساس بجيب المواطن" هي حكومة أقل من أن تتولى مشروع دولة ينقل اقتصاد البلاد من واقعه الحالي المنكشف بحساسية عالية على تقلبات أسعار النفط إلى دولة قادرة على التعامل مع مختلف الأزمات باقتصاد على الأقل شبه متنوع تتوفر فيه توازنات معقولة لاختلالات الإيرادات العامة وسوق العمل والتركيبة السكانية.هذا الطموح الضئيل في الإدارة العامة، لاسيما في شقها التنفيذي، جعل مؤسسات التصنيف الائتماني مثل "ستاندرد آند بورز" تنتقد، على غير عادتها، فعالية الإجراءات الحكومية بأنها مؤقتة، وأن الأموال المتأتية لخزينة الدولة من الاستدانة "الدين العام"؛ ستنفد خلال 3 سنوات؛ إذا استمر العجز حتى عام 2024 دون اتخاذ إجراءات إصلاحية هيكلية للاقتصاد فضلاً عن الإشارة بصراحة إلى "عجز المؤسسات عن قدرتها على إيجاد حل مستدام طويل الأجل بشأن الاحتياجات التمويلية".لا شك أن غياب مشروع الدولة له ضريبة على مختلف أوجه الحياة العامة، منها لأن تكون وتيرة الفساد أسرع وعمليات الإنجاز أقل، وله أيضاً أثر على سرعة التأثر بالأزمات الاقتصادية وكذلك السياسية، لذلك فإن جانبا من الازمة السياسية التي تعيشها الكويت منذ سنوات والتي انعكس صداها بتصويت الناخبين في 5 ديسمبر الماضي، يرجع الى تراكمات من غياب مشروع الدولة وضآلة الإنجاز وتصاعد الإخفاقات ونمو الفساد، فضلاً عن أن طموحات الدولة باتت ضئيلة لا ترقى حتى لتصريف العاجل من الأمور.