ترجل «أبو العنايا»

غادرتَ هذه الدنيا مخلفاً سيرة عطرة يتحدث بها القاصي والداني، غادرتَها بعد معاناة من المرض الذي أنهك جسدك الصلب الذي بقي عقوداً كجلمود صخر، وتحمل ألماً يعجز عن حمله أشد الرجال.

ولكن يكفيك يا والدي فخراً أنك غادرت تلك الدنيا الفانية مخلفا كنزاً نفيساً من سيرة عطرة يثني عليها الكبار والصغار، ويكفينا شرفاً أنك كنت عصامياً بنيت مجداً من قيم الشهامة والمروءة والإباء التي سيخلدها التاريخ.

همتك العالية التي نشأت عليها تجلت واضحة في مسيرة حياتك، فارتحلت في ريعان شبابك مغادراً سورية، فزرت حيفا ويافا والقدس، وعرجت على «المسمية» في غزة مسقط رأس أبيك، إلى أن حطت بك الرحال أخيراً في حوران، فاتخذتها سكناً واتخذتك رمزاً.

إن شظف العيش أكسبك يا والدي صلابة الصخور وسمو الصقور وشموخ الجبال، فاجتمعت فيك متناقضات لا تجتمع في كثير من الناس، فتجد القسوة أختاً للين، والحزم صديقاً للرفق، وكل سمة تظهر في مقامها.

أما التضاريس التي رسمها الزمن على أعلى جبهتك فكان يتجلى فيها أسمى معاني الأبوة والعطاء، ويتحدر منها أروع معاني الإنسانية في مساعدة الفقراء من المساكين والأرحام.

ورغم أنك لم تكن تتقن من كتابة اللغة العربية إلا بضعة أحرف، ترسمها بشكل متقطع، فلا يعرف كنهها إلا أنت، فإنك ربيت أبناءً وصلوا إلى أعلى الدرجات الجامعية وصارت لهم أسماء ناصعة في سجل الأطباء والمهندسين والمعلمين.

كانت الحكمة تجري على لسانك حسب الموقف والمقام، فعن الأم كنت تقول «الأم بتلم»، وعن الكرم تقول «كل كريم رحيم»، وعن الأرض تقول «الأرض كالعرض»، وأن الإنسان قد يكون عدو نفسه، فتقول «دير بالك على حالك من حالك»، وسلسلة طويلة من الحكم التي يصعب حصرها. أما في الصبر فقد سجلت أعلى المراتب وأسماها، وذلك حين فقدت ثلاثة من أبنائك، على مدار سنين عجاف مضت، وحين عزيتك في شقيقي الأخير قلت لي كلمة ما زالت ترن في أذني حتى اليوم، بأن «كلنا أمانة يا يابا» متخذاً من قول الله تعالى: «وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ» منهاج حياة.

وحسبك ما ورد في حديث رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا مَاتَ وَلَدُ الْعَبْدِ قَالَ اللَّهُ لِمَلائِكَتِهِ قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي فَيَقُولُونَ نَعَمْ فَيَقُولُ قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ فَيَقُولُونَ نَعَمْ فَيَقُولُ مَاذَا قَالَ عَبْدِي فَيَقُولُونَ حَمِدَكَ وَاسْتَرْجَعَ فَيَقُولُ اللَّهُ: ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ». نسأل الله أن يكون من نصيبك يا والدي.

ترجل العفيف الكريم، ترجل واصل الرحم عطوف القلب جامع القربى ترجل «أبو العنايا» الذي كان حصناً للأباعد قبل الأقارب، ونهراً عذباً من الأخلاق السمحة، ليسبقنا إلى مستقر رحمة الله، في تلك الدار التي لا لغو فيها ولا تأثيم، والتي لا يعرف أهلها ظلماً ولا غربة ولا تهجيراً، وفي النهاية فإن العين لتدمع العين وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا «إنا لله وإنا إليه راجعون» وإنا على فراقك يا أبت لمحزونون.

● حسن الغزاوي