تعثرت الديمقراطيات وزادت قوة الأنظمة الاستبدادية في آخر عقد ونصف، وخلال هذه الفترة، رسّخت الدول الدكتاتورية أنظمتها القمعية وعملت على تحديثها، وأصبحت الحكومات في جميع مناطق العالم، بما في ذلك عدد من الديمقراطيات الظاهرية، أقل ليبرالية وأكثر استبداداً، فقد فتحت الصين وروسيا تحديداً المجال أمام تضييق الخناق محلياً، وتكييف تقنيات البلدَين كي تتماشى مع العصر الرقمي، وفرض نفوذ متزايد في الخارج لجعل العالم أكثر أماناً للأنظمة الاستبدادية.

أصبحت الدول الديمقراطية اليوم ضعيفة أمام الحكومات الاستبدادية وأفكارها أكثر من أي مرحلة أخرى من حقبة ما بعد الحرب الباردة، وبفضل مظاهر العولمة، باتت الأنظمة الاستبدادية والديمقراطية متداخلة بطرق معقدة ومسيئة للديمقراطيات. على سبيل المثال، تكاثرت الشراكات المرتبطة بقطاعات الإعلام والتكنولوجيا بين الديمقراطيات والأنظمة الاستبدادية، مما أدى إلى إضعاف مصداقية الأخبار والمعلومات والحد من حرية التعبير، كذلك، تتفاعل الجامعات ودور النشر والمنظمات البحثية في الدول الديمقراطية مع الدول الاستبدادية وتقبل التمويل منها بدرجة كان يصعب توقّعها منذ فترة قصيرة، وفي الوقت نفسه، أصبحت اقتصادات عدد كبير من الديمقراطيات أكثر عرضة لأشكال حادة من الفساد والمكائد الاستبدادية.

Ad

من خلال هذه الروابط، تستطيع القوى الاستبدادية استنزاف معايير المساءلة الأساسية في الدول الديمقراطية، وفي عصر العولمة المفرطة، أنشأت الأنظمة في روسيا والصين حواجز داخلية في وجه النفوذ السياسي والثقافي الخارجي تزامناً مع مهاجمة انفتاح الأنظمة الديمقراطية في الخارج، وعلى عكس "القوة الناعمة" التي تستعملها الدول لاكتساب النفوذ عبر استمالة الجهات الأخرى، تستخدم الحكومات "القوة الصلبة" عبر محاولة قمع الآراء التي لا تعجبها وفرض رقابة عليها في الخارج وعبر إضعاف المؤسسات الديمقراطية المستقلة. لقد طوّرت الأنظمة الاستبدادية، بقيادة بكين وموسكو، تقنيات اكتساب النفوذ كي تتماشى مع البيئة المعاصرة.

في آخر أربع سنوات، انتشرت النزعة الاستبدادية الرامية إلى منع مساءلة السلطات وقمع المعارضين وأصبحت عابرة للحدود الوطنية، فانشغلت الديمقراطيات بمشاكلها الداخلية وسمحت للأنظمة الاستبدادية بفرض نفسها كقوى ناشطة وهادفة وعابرة للأوطان وقادرة على التأثير بالمجتمعات المنفتحة ومؤسساتها.

تطمح الأنظمة الاستبدادية إلى الحفاظ على مكاسبها عبر تحديد القواعد والمعايير التي تحكم التكنولوجيا الناشئة، فتحاول بكين مثلاً التأثير في طريقة تطوير المعدات والبرمجيات والمعايير التقنية الخاصة بالابتكارات التكنولوجية التي تصدّرها إلى الخارج وتسعى إلى تصميم إطار مفاهيمي للنقاشات الأساسية المرتبطة بالتكنولوجيا، كتلك المتعلقة بتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي، حيث وسّعت الصين مثلاً مشاركتها في هيئات تحديد المعايير الدولية، مثل الاتحاد الدولي للاتصالات والمنظمة الدولية للمعايير، علماً أن هذه الجهات تكون مؤثرة بشكلٍ خاص في الدول النامية التي تفتقر إلى الموارد اللازمة لتحديد المعايير التكنولوجية بنفسها، وإذا اكتسبت الدول الاستبدادية نفوذاً إضافياً وزادت تأثيرها في الأنظمة التي يستعملها الناس حول العالم لتقاسم المعلومات وتلقّيها، ستزيد قدرتها على تسويق أفكارها الاستبدادية بالوسائل الرقمية، فتنشر الرسائل التي تخدم مصالحها وتعوق تلك التي تتحدى أفكارها المفضلة.

افترضت معظم التحليلات الخاصة بالأنظمة الاستبدادية في السنوات الأخيرة أن هذه الحكومات ستحاول اكتساب النفوذ الدولي عبر أسلوب الإقناع، لكن الحكام المستبدين يفضّل خيارات مختلفة حول طريقة تنظيم العالم وحُكمه، حيث تتمحور أنظمتهم حول السيطرة على المواقف والأفكار وقمع المجتمع المدني والتخلص من مراكز السلطة المستقلة، وتعكس تدخلاتهم في الخارج الخيارات التي يفضلونها.

لمواجهة هذه الأجندة، يجب أن تبذل مجموعة كاملة من المؤسسات داخل المجتمعات المنفتحة جهوداً مثمرة، فقد تكون الحكومات أفضل الجهات القادرة على التجاوب مع بعض جوانب التدخل الاستبدادي، وقد يتطلب التدخل القسري أو الخفي تحرك وكالات إنفاذ القانون أو استعمال الأدوات التنظيمية، لكن الحكومات وحدها لا تستطيع أن تطلق رداً فاعلاً على مختلف الوسائل التي تستعملها الأنظمة الاستبدادية لتوسيع نفوذها.

يُعتبر المجتمع المدني المستقل جزءاً محورياً من أسباب تفوق الديمقراطيات في منافستها مع الدول الاستبدادية، ويجب أن تُطوّر الجهات غير الحكومية، بما في ذلك وسائل الإعلام والجامعات وشركات التكنولوجيا والترفيه وسواها، استراتيجيات فاعلة لترسيخ معايير الانفتاح والمساءلة ونزاهة المؤسسات، وإلا ستصبح هذه الأطراف معرّضة لتأثير الأنظمة الاستبدادية، وعلى صانعي السياسة أن يعترفوا أيضاً بأن القطاع غير الحكومي، الذي يعتبره القادة المستبدون نقطة ضعف، جزء من نقاط قوة الديمقراطية، مما يعني ضرورة أن يعطوه الأهمية التي يستحقها.

يُفترض أن يتكل قادة المؤسسات المؤثرة في الأنظمة الديمقراطية على قوة الأرقام حين يحاولون التصدي للتهديدات الاستبدادية، ويجب أن ينسّق هؤلاء جهودهم في ما بينهم، فقد حاولت بكين مثلاً أن تفرض شكلاً من الرقابة على المنظمات البحثية والعلماء في أوروبا هذا الربيع رداً على العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي لاستهداف مسؤولين في الحكومة الصينية لأنهم متّهمون بانتهاك حقوق الإنسان في منطقة "شينجيانغ"، وأصدرت مجموعة من المؤسسات البحثية والعلماء الفرديين بيانات تضامن مشتركة لاستنكار تلك الخطوة واعتبارها جزءاً من جهود الحزب الشيوعي الصيني لتقييد الأبحاث الأكاديمية المستقلة حول الصين.

قد يكون هذا النوع من الردود إيجابياً وجديراً بالثناء، لكنه سيزداد تأثيراً إذا اشتق من جهود منظّمة ومتواصلة لدعم تحقيقات فكرية غير محدودة قبل أن يتمكن الحزب الشيوعي الصيني أو أي قوة استبدادية أخرى من فرض الضغوط، كذلك، يجب أن تُطور الجامعات ودور النشر والمنظمات البحثية توجيهات خاصة بهذا القطاع لتجنب تقديم تنازلات غير ضرورية للحكومات الاستبدادية، مثل الرضوخ لمطالب الرقابة، ولتوجيه رسائل واضحة حول مبادئها، وسيؤدي غياب التضامن في هذا المجال إلى إضعاف قدرة هذه المؤسسات على المساومة حين تتعامل مع "نظيراتها" في الدول الاستبدادية وتتعرّض للترهيب وسياسة حافة الهاوية الوحشية.

كذلك، يجب أن تفكر شركات القطاع الخاص في المجتمعات المنفتحة بتبني استراتيجيات مهنية لا تسمح للأنظمة الاستبدادية بالضغط عليها لمراجعة مواقفها العلنية أو فرض العقوبات على موظفيها أو تغيير خرائطها كي تتماشى مع مطالبات الأنظمة بالأراضي ومسائل مشابهة أخرى، وقد يؤدي أي فشل في هذا المجال إلى نشوء دوامة قادرة على ترسيخ التفوق الاستراتيجي للأنظمة الاستبدادية.

في قطاع التكنولوجيا، تحتاج الديمقراطيات إلى تشجيع الجهات المعنية على خوض سباق نحو أعلى المراتب، ويجب أن تُعمّق جهودها إذاً للدفاع عن حرية التعبير ونزاهة المعلومات واحترام الخصوصية، ولتحقيق هذه الغاية يجب أن يؤدي المجتمع المدني دوراً مؤثراً لتحديد معايير خاصة بالتكنولوجيا، مثل شبكات الجيل الخامس اللاسلكية وظاهرة "إنترنت الأشياء"، كذلك، يُفترض أن تُركّز منظمات المجتمع المدني على تنظيم التقنيات الجديدة والقوية، مثل أنظمة التعرّف على الوجه أو الصوت، لأنها قد تُهدد الحريات المدنية.

يحاول النظامان الصيني والروسي اكتساب النفوذ عبر نشر رساميلهما في دول أخرى، وسيصبح الناشطون في المجتمع المدني والمحللون في المنظمات البحثية والصحافيون الاستقصائيون الذين يفهمون العلاقات المعقدة بين هذه الأنظمة الاستبدادية وعملائها أكثر جهوزية للتعامل مع هذه التدفقات المالية. يجب أن يدرس هؤلاء المفاوضات والاتفاقيات والصفقات في سياقاتهم المحلية للكشف عن أي فساد محتمل ورصد تسلل نفوذ بكين وموسكو ودول أخرى.

من الناحية الإيجابية، بدأت قطاعات معينة في بعض الدول الديمقراطية تبتكر رداً ناشطاً على تلك التهديدات الاستبدادية، وتستكشف وسائل الإعلام والمنظمات البحثية وجماعات المجتمع المدني وشركات التكنولوجيا مثلاً طرقاً مبتكرة لكبح تدخّل بكين المفرط في مجال الإعلام، وقد اتضح هذا النهج في حملة دعم المجتمع المدني، حين سحبت هيئة تنظيم الإعلام في المملكة المتحدة رخصة البث من قناة تلفزيونية صينية مملوكة للدولة، مما يؤثر في قدرتها على البث في أي مكان آخر من أوروبا ودول الخارج. كانت أستراليا وجمهورية التشيك وتايوان من بين الدول التي شهدت أكبر الجهود من جانب المجتمع المدني للتصدي للقوة الاستبدادية الحادة، لكن النجاح لا يتوقف حصراً على التدابير الفاعلة التي تطبقها الدول الفردية، بل يجب أن تتخذ الديمقراطيات خطوات مشتركة أيضاً.

تمتنع الديمقراطيات اليوم عن التحرك انطلاقاً من الفرضية المرتبطة بضرورة أن تنظّم الدول شؤونها الداخلية قبل أن تتمكن من مواجهة التهديدات الاستبدادية، لكنها لا تستطيع أن تتجاهل وضع العالم من حولها أثناء قيامها بذلك، ومن المستبعد أن تتراجع الأنظمة الاستبدادية التي اكتسبت نفوذاً متزايداً في الدول الديمقراطية والهيئات الدولية التي تُحدد القواعد والقوانين، أو توقف نشاطاتها بانتظار أن تتجاوز الديمقراطيات مشاكلها الخاصة، ويجب أن تعالج الأنظمة الديمقراطية نقاط ضعفها في الوقت نفسه وتحمي مؤسساتها من التهديدات الخارجية بطرق مثمرة ومتبادلة إذا أرادت منع الخصوم المستبدين من إنشاء عالم آمن للدول الاستبدادية.

● كريستوفر واكر وجيسيكا لودفيغ – فورين أفيرز