قد يكون من المبكر الحديث عن توديع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، والتي اختارت أن تودع الحياة السياسية وألا تتقدم للانتخابات التشريعية التي ستجري في شهر سبتمبر من هذا العام، وألا تسعى مجددا لشغل منصب المستشار في ألمانيا الاتحادية.ولكن أردنا أن نستغل فرصة الفوز المتوقع لحزبها (الحزب المسيحي الديمقراطي)، في انتخابات ولاية (ساكسونيا-أنهالت)، حيث أظهرت النتائج الأولية، في السابع من هذا الشهر، فوز هذا الحزب بنسبة 36.6 في المئة من بين أصوات المقترعين، مسجلا بذلك، وحسب وكالات الأنباء، زيادة ست نقاط بالنسبة إلى الانتخابات التي جرت قبل خمس سنوات، وهو ما نُظر إليه على أنه نصر غير مباشر للمستشارة الألمانية، لأن هذه النتائج تعزز من حظوظ مرشح حزبها (أرمين لاشيت)، للفوز بالانتخابات التشريعية المقبلة، هذا من ناحية، وتؤكد رضا غالبية الشعب الألماني عن سياستها في مختلف المجالات منذ أن تولت المنصب عام 2005.
وكنت قد قرأت على بعض مواقع التواصل الاجتماعي أخبارا عن توديع الشعب الألماني مستشارته (أنجيلا ميركل)، وكيف دوى التصفيق الحار لمدة ست دقائق في الشوارع، وفي الشرفات، ومن النوافذ، كتحية رمزية ومتميزة لمستشارة حكمت 16 عاما، 80 مليون ألماني بكل قدرة، وإخلاص، وكفاءة، ونزاهة، ورأى بعضهم أنها لم ترتكب أخطاء جسيمة في حق بلدها وشعبه، ولم تبحث عن منافع شخصية، فلم توظف مثلا أحداً من أقاربها في مناصب حكومية، وأذكر في أحد البرامج التلفزيونية التي تابعتها قصة روتها إحدى الصحافيات حين سألت المستشارة ولفتت انتباهها إلى أنها ترتدي اللباس نفسه في أكثر من مناسبة، ولا تغير كثيراً في مظهرها، فردت عليها قائلة: لم أكن أدري أنني أشارك في عروض للأزياء!ولدت المستشارة في مدينة هامبورغ بألمانيا عام 1954، وانتقلت لاحقا مع أسرتها إلى ألمانيا الشرقية، ودرست الفيزياء وحصلت على الدكتوراه في الكيمياء الفيزيائية، مما أهلها لاحقا لإبداء رأيها بخصوص الإجراءات الواجب اتخاذها على مستوى ألمانيا، أو على مستوى دول الاتحاد الأوروبي بخصوص التصدي لجائحة كورونا19 التي تجتاح العالم منذ عام 2020، فلم تتعامل مع هذه الجائحة كسياسية فقط ولكن كدارسة للعلوم ولديها الخبرة العلمية التي لا بد أنها ساعدتها في اتخاذ قراراتها السياسية.تنتسب المستشارة ميركل كما ذكرت، إلى عضوية الحزب المسيحي-الديمقراطي، وشغلت عدة مناصب وزارية في حكومات المستشار السابق (هيلموت كول)، وتم اختيارها مستشارة لألمانيا الاتحادية عقب فوز حزبها في الانتخابات التشريعية عام 2005، لتكون بذلك أول امرأة تتقلد هذا المنصب الرفيع والمهم في الحياة السياسية الألمانية، مما سمح لها لاحقا أن تعاصر أربع رؤساء فرنسيين: جاك شيراك (توفي عام 2019)، ونيكولا ساركوزي، وفرانسوا هولاند، والرئيس الحالي إيمانويل ماكرون. والجدير بالذكر أنه لم تشغل سيدة فرنسية منصب رئيسة الوزراء في الجمهورية الخامسة إلا مرة واحدة، وكانت في فترة رئاسة (فرانسوا ميتران)، حيث شغلت هذا المنصب (اديت كرسون) لأقل من عام (1991-1992). وذكرني ذلك كيف شهد العالم الإسلامي تولي أربع سيدات منصب رئيس وزراء، ولا تزال إحداهن في سدة الحكم كرئيسة وزراء ببنغلادش وهي (شيخة حسينة واجد) التي شغلت المنصب في فترة أولى (1996-2001)، وتشغله حاليا منذ عام 2009، أما من شغل منصب رئيس الوزراء فمن باكستان (بينظير بوتو) التي شغلت هذا المنصب لمرتين (1988-1990/1993-1996)، ومن تركيا: (تانسو تشيلر) (1993-1996)، ونضيف بأن امرأة تسلمت رئاسة أكبر بلد إسلامي من حيث عدد السكان ونقصد إندونيسيا، حيث تولت (مغاواتي سوكارنو) رئاسة الجمهورية (2001-2004). ولا يمكن ونحن نتحدث عن المستشارة الألمانية، أن نغفل موقفها المشرف من اللاجئين الذين توافدوا بأعداد كبيرة إلى ألمانيا اعتبارا من عام 2015، حيث وصلت أعدادهم حسب وكالات الأنباء إلى حوالي مليون شخص، والكل يذكر في هذا المجال عبارتها (سننجح في المهمة)، حيث فتحت لهم المستشارة أبواب الدخول، في حين أغلقتها دول أوروبية أخرى، بل طردتهم ورحلتهم أيضا، وقد شاهدنا صوراً ومقاطع مسجلة يحمل فيها اللاجئ صورة المستشارة وقد حطت رحاله في إحدى المدن الألمانية، أو يسعى آخر إلى أخذ صور معها، وأصبحت تتردد عبارة (ماما ميركل). ونشرت وكالات الأنباء، فيما يتعلق بأوضاع اللاجئين الجدد، خلاصات دراسات أجراها المعهد الألماني للبحوث الاقتصادية أشارت إلى أن ألمانيا على طريق النجاح لإدماج اللاجئين، مما يعني أن ألمانيا في طريقها للنجاح بمهمتها كما قالت المستشارة، في الوقت الذي ركزت فيه الدراسات أيضا على ضرورة التعاون بين اللاجئين والمجتمعات التي يقيمون فيها، وبذل الجهود من قبل الجميع.وفتشت من باب الفضول عما أُلف أو ترجم من كتب أو تعلق بالمستشارة الألمانية، فعثرت على رواية صدرت عام 2017 بعنوان: (ماما ميركل) لعماد البليك، وكتاب مترجم صدر عام 2018، عن (جروس برس)، بعنوان: (أنجيلا ميركل سحر السياسة)، تأليف (ماريون فان رنترغيم)، ونشرت هذه الصحافية، التي تُعّد من بين أهم من كتب عن المستشارة وتابع أخبارها وسعى مرارا وتكرارا للاجتماع بها، وفي هذا الشهر كتابا جديدا بالفرنسية بعنوان (كانت ميركل)، وذُكرت أمور كثيرة في هذا الكتاب، ولكن من طريف ما جاء فيه أن اسم المستشارة تحول إلى فعل (ميركيليزية) بمعنى: التقدم خطوة خطوة، وبشكل هادئ، بغية الوصول إلى الهدف.وفي لقاء جمع عدداً من الصحافيين الفرنسيين، في نهاية الأسبوع الفائت، وكانت هذه الصحافية الفرنسية من بينهم، تحدث كل منهم عن انطباعاته عن المستشارة، وكيف يرى الدور الذي لعبته طوال السنوات الماضية، وما العلامات الفارقة في تاريخها السياسي، ومما سجلته وأنا أستمع لهذا الحوار الممزوج بالإعجاب والاحترام لهذه المستشارة، هو كيف أنها جسدت الشعب الألماني في القرن العشرين، وكيف نجحت بالذات، وفي خلال أسبوع، باتخاذ قرارات أدت لإخراج ألمانيا من الاعتماد على الطاقة النووية، ومن طريف ما ذُكر اهتمامها بالجامعات، وأنها تنتظر انتهاء فترة حكمها لتنفذ هي وزوجها، والذي لم نعرف له أو نسمع أي نوع من الفضائح أو الاستغلال كونه زوج المستشارة، عدة مشاريع مؤجلة من بينها السفر لأن المستشارة تعشق السفر، ولأنها ترعرعت في ألمانيا الشرقية، فإن فرص السفر كانت نادرة جدا، وما لفت انتباهي أخيرا أنها ستقوم بزيارة كل الجامعات التي منحتها درجة الدكتوراه الفخرية لتتعرف عليها عن قرب وعلى مناهجها وطلابها وأساتذتها.* أكاديمي وكاتب سوري مقيم بفرنسا
مقالات
وداعاً المستشارة أنجيلا ميركل
09-06-2021