صدق الورق!
كتبتُ مقالي الماضي في هذه الزاوية بعنوان "فشل التعليم عن بعد!"، واستكمالاً للفكرة نفسها، بضرورة العودة إلى التعليم النظامي المباشر، إذا ما سمحت اشتراطات وزارة الصحة بذلك، فإن المتابع للشأن التعليمي في الكويت يُدرك تماماً الإشكال الكبير والمخيف الذي وقع فيه طلبتنا في السنة الماضية، على أثر امتحانات الـ "أون لاين-On line" وما نتج عنه من حصول بعض الطلبة على مجاميع عالية جداً تجاوزت الـ90 في المئة، بينما بعضهم عاجز عن كتابة اسمه باللغة الإنكليزية، وكم كانت المفارقة جلية، حينما حصل بعض هؤلاء على منح تمكّنهم من السفر لبدء دراساتهم الجامعية خارج الكويت!اليوم، تلوح الكارثة نفسها متمثلة بأصوات ترتفع هنا أو هناك، بتجنّب الامتحانات الورقية، وإكمال مشوار الدراسة عن بعد، من خلال امتحانات تتم في البيت وعبر تقنية الـ"أون لاين"، والأمر يدعو للدهشة، فإذا كانت وزارة الصحة، ومجلس الوزراء الموقر قد أقرّا بعودة الحياة إلى ما يشبه طبيعتها، وفي جميع مرافق الدولة، فلماذا لا تتم الامتحانات وفق النظام التقليدي وبحضور شخصي، وتأدية الامتحانات الورقية، خصوصا أن وزارة التربية قد قامت بتجهيز المدارس مقار الامتحانات بجميع ما تحتاج إليه، ووفق الشروط التي تطلبها وزارة الصحة؟!قد يكون هناك مبرر لشاب كسلان، أن يختبئ خلف الامتحانات عن بعد، ليُكمل مسيرته الدراسية عن طريق الغش، الأمر سيان عند بعض الفتيات، لكن اللافت للنظر وما يجب الوقوف عنده كثيراً، هو استعداد بعض الأسر لمشاركة أبنائهم رغباتهم في الغش، وبالتالي مباركة هذه الأسر لمشروعية الغش، بوصفه طريقاً يؤدي إلى النجاح! وهنا، فإنني لا يمكن أن أنسى تجمعاً حصل أمام وزارة التربية، لجمع من الأبناء برفقة آبائهم وأمهاتهم، وهو يطالبون بعدم تجريم الغش! والنظر في إمكانية تمريره في الدراسة!
في كل الأديان، وفي كل الممارسات الاجتماعية، يأتي الغش مرفوضاً ومُداناً، ويصل الأمر في الإسلام تحديداً إلى ما ورد في الحديث الشريف: "منْ غشّنا فليس منّا"، بما يعني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأى في الغش ممارسة إنسانية رذيلة تستحق نبذ وإخراج الإنسان الذي يمارسها من ساحة المسلمين، وكم هي كبيرة الدلالة!مسلك الثقافة الإنسانية يشير بوضوح إلى ضرورة تربية الأبناء على الأخلاق الحميدة، وعلى رأسها الصدق، فكيف بمن يُطالب علانية بتشريع الغش؟! فمؤكد أن الأسر، وفي جميع دول العالم، قد وقفت على إشكاليات التعليم عن بعد، وعلى رأسها الغش الذي صار ممكناً ومتاحاً للطالب، سواء من الكتاب أو من شخص آخر، من أفراد العائلة أو الأقرباء أو الأصدقاء، حتى وصل الأمر إلى تأجير شخص يحضر مكان الطالب في الامتحان وحل مسائله وتقديمه. هذا الكلام ليس من باب المبالغة أو الخيال، فأنا محاط بفعل التعليم عن بعد، وبشكل يومي، سواء فيما أقدمه شخصياً للطلاب الذين أتعامل معهم، أو ورش الكتابة الإبداعية التي أقدمها، أو ما تفعله "زوجتي" وهي دكتورة تدرّس في كلية العلوم بجامعة الكويت، وكذا ابنتي الكبرى، وهي أيضا دكتورة تُدرّس في كلية الآداب بجامعة الكويت! إضافة إلى عدد كبير من أصدقائي المشتغلين في التدريس، والجميع يشكو من بؤس التعليم عن بُعد، وممارسات الطلبة في عدم حضورهم، فهناك من يشغّل الكاميرا لإثبات حضوره بينما هو نائم أو غير متواجد أصلاً، وهناك من يتابع الحصة وهو في السيارة أو اليخت أو المطعم، وهناك فتيات ونساء يمارسن الدرس وهن في المطبخ أو أمام مرآة المكياج!كان هناك من يراهن على فكرة التدريس عن بُعد، بوصفه طريق المستقبل في التدريس لطلاب المدارس والجامعات، لكن جائحة كورونا كشفت المستور، وقدّمت للبشرية أدلة دامغة على فشل التعليم عن بُعد، وتحديداً في دولنا، دول العالم المتخلّف! لذا وشهادة للتاريخ أقول: لا لامتحانات النقل في المرحة الثانوية عبر تقنية الامتحان عن بعد، وأرفع الأمر لوزير التربية وكل من يهمّه الأمر بأن وطننا الغالي يستحق الصدق، بعيداً عن كل ممارسات الغش البائسة!