في عام 2006، حين كانت الحرب الأميركية في العراق في أدنى مستوياتها، أعاد الجيش الأميركي اكتشاف معنى مكافحة التمرد، ونشأت هذه العقيدة في الأصل خلال الخمسينيات على يد مبتكرين عسكريين من أمثال المارشال البريطاني غيرالد تامبلر في مالايا والضابط الأميركي إدوارد لانسديل في الفلبين، ووفق هذه الاستراتيجية، لا يستطيع أي جيش أن يهزم حركات التمرد عبر قتل المتمردين بكل بساطة، وبسبب القتل العشوائي، قد يزيد الأعداء بدل التخلص منهم، ووفق عقيدة مكافحة التمرد، لا يمكن فرض السيطرة إلا من خلال منح الناس العاديين الأمن والخدمات الأساسية. تسمح هذه الخطوة للجهات التي تكافح التمرد بكسب ثقة الناس، مما يعني تشجيعهم على منحها المعلومات الاستخبارية اللازمة لقتل أبرز المتمردين أو احتجازهم من دون إيذاء المدنيين الأبرياء.

تعاون جنرالان، وهما ديفيد باتريوس من الجيش الأميركي وجيمس ماتيس من القوات البحرية الأميركية، لإعداد دليل ميداني شامل نُشِر في ديسمبر 2006 وكان يؤيد مفهوم مكافحة التمرد، خلال السنوات اللاحقة، طبّق باتريوس استراتيجية مكافحة التمرد بصفته قائد القوات الأميركية في العراق، وأدت زيادة القوات العسكرية التي أشرف عليها إلى تراجع أعمال العنف هناك بأكثر من 90%، فلم تنجح القوات الأميركية في معالجة الاضطرابات العرقية والطائفية الكامنة أو تحويل العراق إلى بلد ديمقراطي نموذجي، لكن كان نجاح خطة الزيادة العسكرية على المدى القصير كفيلاً بتوسّع شعبية مكافحة التمرد في أوساط الأمن القومي الأميركي، وفي المرحلة اللاحقة، ترأس باتريوس وماتيس القيادة المركزية الأميركية المسؤولة عن منطقة الشرق الأوسط واستلما أعلى المناصب الحكومية، فأصبح باتريوس مدير وكالة الاستخبارات المركزية وماتيس وزير الدفاع الأميركي.

Ad

كذلك، تسلم باتريوس قيادة القوات الأميركية والدولية في أفغانستان بين العامين 2010 و2011 وأشرف حينها على خطة أخرى لزيادة القوات العسكرية، لكن لم تترافق الخطة هذه المرة مع نتائج جذرية كتلك التي شهدها العراق، فسرعان ما تحقق توقّع باتريوس الذي حذّر قبل استلامه هذه المهمة من أن تطرح أفغانستان مشكلة أكثر تعقيداً، واليوم، بعد مرور عقدَين على بدء التدخل العسكري الأميركي، قرر الرئيس جو بايدن سحب القوات الأميركية المتبقية (3500 عنصر أميركي) من أفغانستان رغم غياب أي تقدّم في محادثات السلام بين الحكومة الأفغانية وحركة "طالبان"، وتبدو "طالبان" أقوى من أي وقت مضى، وهي تحرص على تحقيق مكاسب كبرى ميدانياً، وفي المقابل، حذرت الأوساط الاستخبارية الأميركية من احتمال أن يصبح البلد كله تحت سيطرة هذه الجماعة بعد سنتين أو ثلاث سنوات على رحيل القوات الدولية، وإذا حصل ذلك، فستتكبد الولايات المتحدة أكبر هزيمة عسكرية مهينة منذ حرب فيتنام حيث فاز الأعداء أيضاً بعد انسحاب القوات الأميركية.

ترتكز استراتيجية بايدن للانسحاب من أفغانستان على ضرورة التركيز على أولويات أخرى، أبرزها السيطرة على المنافسة التي تخوضها واشنطن مع الصين وروسيا، فقد سبق أن قررت القوات البحرية الأميركية، التي تعتبر نفسها منذ العشرينيات أول "قوة حربية أميركية صغيرة"، تغيير وجهتها وقد بدأت تنفّذ حملة للتنقل بين الجزر في المحيط الهادئ، حيث تختلف هذه المقاربة بشدة عن عمليات مكافحة التمرد التي نفذتها هذه القوات منذ فترة غير طويلة في محافظة الأنبار العراقية وولاية هلمند الأفغانية.

بعد عشرين سنة على اعتداءات 11 سبتمبر، بدأت حقبة مكافحة التمرد تقترب من نهايتها، إذ تخسر هذه العقيدة قوتها سريعاً في أوساط الأمن القومي. لكن يخطئ من يستخف بأهمية هذه المقاربة اليوم، وما من استراتيجية أفضل منها لمواجهة الإرهابيين والعصابات، وإذا تناست الولايات المتحدة مبادئ مكافحة التمرد، كما فعلت بعد حرب فيتنام، فلا مفر من أن تدفع ثمناً باهظاً في ساحات المعارك مستقبلاً.

التدابير الجزئية مرفوضة

مكافحة الإرهاب تختلف عن مكافحة التمرد: يعني المفهوم الأول استهداف فئة محددة من الأفراد والمجموعات، في حين يشدد المفهوم الثاني على توفير الأمن للسكان، وبالنسبة إلى الجيوش المتطورة تكنولوجياً، قد تبدو مكافحة التمرد استراتيجية أكثر عملية وأقل طموحاً من غيرها، لكن تكمن المشكلة في احتمال أن تعوق عمليات مكافحة التمرد الجماعات الإرهابية من دون أن تهزمها، وهذا ما اكتشفته إسرائيل مثلاً في معاركها ضد حركة "حماس" وحزب الله. طالما ينشط الإرهابيون من مناطق تقع تحت سيطرتهم، سيتمكنون دوماً من تجديد القوى التي خسروها خلال الضربات الجوية أو غارات الكوماندوز.

اكتشفت الولايات المتحدة من جهتها حدود استراتيجية مكافحة الإرهاب خلال حربها اللامتناهية ضد تنظيم "القاعدة" وجماعات إرهابية إسلامية أخرى.

في النهاية، تمكّن أسامة بن لادن من تنفيذ اعتداءات 11 سبتمبر رغم الضربات الصاروخية الأميركية التي استهدفت منشآت "القاعدة" في أفغانستان في عام 1998، ورغم العمليات الهجومية الأميركية التي امتدت على عشرين سنة، لا تزال "القاعدة" صامدة ولا يقتصر الناجون فيها على التنظيم الأساسي في باكستان، إذ لا تزال فروعها قائمة في شمال إفريقيا والصومال واليمن وأماكن أخرى. كذلك، يشمل "داعش" الذي اشتق في الأصل من "القاعدة" آلاف المقاتلين والفروع في أماكن متنوعة مثل أفغانستان وموزمبيق ونيجيريا حتى الآن، ووفق تقديرات العالِم السياسي بروس هوفمان، ارتفع عدد المنظمات الإرهابية السلفية الجهادية اليوم مقارنةً بفترة هجوم 11 سبتمبر بأربعة أضعاف على الأقل، ونتيجةً لذلك، ستصبح مساحات شاسعة خارجة عن القانون، وقد يُمهّد هذا الوضع لتقوية "القاعدة" و"داعش".

تُعتبر عمليات مكافحة الإرهاب ضرورية لكنها غير كافية للتعامل مع التهديدات التي تطرحها الجماعات الجهادية أو التنظيمات المتطرفة، أقدمت قيادة العمليات الخاصة الأميركية المشتركة على قتل واحتجاز عدد كبير من القادة الإرهابيين في العراق بين العامين 2003 و2006، لكن لم يشهد البلد بداية أي تغيير حقيقي إلا بعدما نفّذ ديفيد باتريوس استراتيجية شاملة لمكافحة التمرد، فلم يكتفِ بالتخلص من معاقل المتمردين بل حرص على فرض الأمن في تلك المناطق عبر نشر قوات عسكرية هناك على مدار الساعة وتوفير الدعم الحكومي لها، فضلاً عن إطلاق حملة تستهدف المتمردين السُّنة.

اليوم، تحتاج الحكومات إلى حملات مماثلة في الدول التي ينشط فيها الإسلاميون العنيفون وجماعات متمردة أخرى، لكن لا يمكن تنفيذ هذا النوع من المهام عن طريق القوات الأميركية وحدها، بل يجب أن تُركّز الولايات المتحدة على مساعدة الجيوش والحكومات الحليفة كي تتمكن من التعامل مع التهديدات بنفسها.

يُفترض أن تكون هذه المهمة من مسؤولية الفِرَق المدنية والعسكرية المؤلفة من مستشارين عسكريين، إلى جانب ممثلين عن وكالات مدنية مثل وكالة الاستخبارات المركزية، ووزارة الخارجية، ووزارة الزراعة، والوكالة الأميركية للتنمية الدولية، إذ يحتاج عدد كبير من هذه الوكالات المدنية حتى الآن إلى تطوير قدراته للمشاركة في هذه الجهود.

من الناحية العسكرية، تعكس العمليات المبنية على المشاورات والمساعدات مجموعة من المهارات الأساسية التي تتمتع بها قوات الجيش الخاصة وكتائب دعم قوات الأمن الجديدة والتابعة للجيش، فقد نشأت هذه الكتائب في عام 2018 وكانت مُصمّمة لتعزيز قدرة الجيش الأميركي على تقديم التوصيات للقوات الخارجية من دون تعطيل عمليات الوحدات القتالية القائمة، ويصل عدد تلك الكتائب اليوم إلى ستة (ينشط خمسة منها ميدانياً وتعمل الوحدة السادسة على شكل حرس وطني). على غرار القوات الخاصة، تكون هذه الوحدات متناغمة جغرافياً وتغطّي إفريقيا، وأوروبا، والشرق الأوسط، ومنطقة المحيط الهادئ، وأميركا الجنوبية.

هذا التخصص الجغرافي سيساعد كتائب دعم قوات الأمن التابعة للجيش في تطوير خبرتها بشؤون المنطقة ومتابعة عملياتها التي تُعتبر بالغة الأهمية لتنفيذ المهام التي يتوقف نجاحها أو فشلها على كسب ثقة القوات العسكرية في الدول المضيفة، كذلك، تستطيع هذه الكتائب أن تستفيد من التفوق التكنولوجي الأميركي، بما في ذلك الطائرات بلا طيار والذخائر الدقيقة التوجيه، لمساعدة حلفاء واشنطن في محاربة الأعداء المشتركين من دون أن تواجه القوات الأميركية تكاليف أو مخاطر كبرى.

قد لا تبقى استراتيجية مكافحة التمرد مهمة بالقدر نفسه في العمليات العسكرية الأميركية خلال العقدين المقبلين، لكن لن تتراجع قيمة هذه العقيدة نظراً إلى ضرورة متابعة تعليمها وتطبيقها، وما من طريقة أخرى للتخلص من المعاقل الآمنة للإرهابيين إلا إذا أبدى الجيش استعداده للمشاركة في عمليات الأرض المحروقة (كما فعلت روسيا في الشيشان)، وهو مسار تمقته ديمقراطيات مثل الولايات المتحدة.

تبقى كلفة استمرار عمليات مكافحة التمرد في الخارج بقيادة الولايات المتحدة مرتفعة جداً على الأميركيين، ومع ذلك تستطيع واشنطن أن تساعد حلفاءها على تنفيذ هذه المهام بناءً على مبدأ تقديم التوصيات والمساعدات عند الحاجة، تثبت تجربة أفغانستان أن مكافحة التمرد قد تفشل بسهولة كما يقول منتقدو هذه المقاربة، لكن ما من خيار أفضل منها حتى الآن.

● ماكس بوت – فورين أفيرز