اندلعت الحرب للمرة الأولى في دارفور عام 2003، حين حمل متمردون من جماعات غير عربية في الإقليم الأسلحة ضد حكومة عمر البشير الإسلامية. لم تكتفِ الحكومة السودانية بإرسال الجيش لإخماد حركة التمرد، بل عمدت أيضاً إلى تسليح عناصر من الجماعات العربية في الإقليم وأنشأت بذلك ميليشيات الجنجويد التي أرعبت سكان دارفور غير العرب. وبدعمٍ من جيش السودان النظامي، بما في ذلك قواته الجوية، ارتكبت ميليشيات الجنجويد جرائم قتل واغتصاب وسرقة في أنحاء المنطقة، مما دفع الولايات المتحدة إلى وضع تلك الحرب في خانة الإبادة الجماعية والأمم المتحدة إلى إرسال قوات لحفظ السلام.بحلول مايو 2019، بدأ السودان عملية انتقالية سياسية مضطربة على المستوى الوطني، لكن بدا غرب دارفور مستقراً بما يكفي كي تقرر بعثة الأمم المتحدة سحب قوات حفظ السلام من مدينة الجنينة، وبعد مرور ستة أشهر، في شهر ديسمبر تحديداً، هاجم مقاتلون عرب مخيم "كيريندينج" للمرة الأولى. لكن لم يمنع تصاعد أعمال العنف الأمم المتحدة من متابعة انسحابها من بقية مناطق دارفور وسرعان ما أنهت هذه المهمة رسمياً في 31 ديسمبر 2020، أي قبل أسبوعين من ثاني هجوم على مخيم "كيريندينج".
هاجمت الميليشيات العربية بلدة "نيورو" أيضاً ثلاث مرات بين العامين 2019 و2021، وفي يناير 2021، طلبت مجموعة المساليت العرقية في البلدة من وحدة قوات الدعم السريع المحلية أن تحميها، مع أن أعضاء الجماعة شبه العسكرية والمدعومة من الحكومة كانوا قد تورطوا في اعتداءات في أماكن أخرى من دارفور. يقول رئيس البلدة إن قائد قوات الدعم السريع المحلية أخبرهم بأنه لم يتلقَ أمراً بحماية المدنيين، لكنه وافق على مرافقة أكثر من 300 عائلة من "نيورو" إلى بلدة "مستري" الأكثر أماناً، لكن لم توفر قوات الدعم السريع الحماية لبلدة "نيورو" بعد مغادرة سكانها. يقول رئيس البلدة: "بعد ثلاثة أيام، عدنا ووجدنا "نيورو" محروقة ومنهوبة، حتى أنهم سرقوا الدجاج، ففي دارفور، لا تحمي الحكومة المدنيين".في شهر فبراير الماضي، توجهتُ إلى "نيورو" مع وحدة مشتركة من قوات الدعم السريع والشرطة، وعلى الطريق الوعر والصخري، شاهدنا سيارات مليئة بالنازحين الذاهبين في الاتجاه المعاكس نحو مدينة الجنينة الآمنة نسبياً، فكانت بلدة "نيورو" قد تدمرت واحترقت منازلها وخُلِعت أبوابها ونوافذها، وراحت الجِمال تتجول وسط الأنقاض.قبل سقوط عمر البشير، كان سكان دارفور غير العرب يكتفون بالهرب من اعتداءات ميليشيات الجنجويد المدجّجة بالأسلحة، لكن بدأت جماعة المساليت تحارب هذه المرة، فانطلقنا من "نيورو" إلى "مستري" حيث يقيم عدد كبير من جماعة المساليت حتى الآن، وكانت الأرض على طول الطريق القذرة سوداء اللون: لم تحرقها ميليشيات الجنجويد بل مزارعون من جماعة المساليت على أمل أن يبعدوا بذلك البدو العرب، وكانت بلدة "مستري" خالية من العرب بالكامل، وبعد أول اعتداء ضد مخيم "كيريندينج" في ديسمبر 2019، أخبرني قائد الحرب التقليدية في "مستري" بأن جماعة المساليت أدركت أن القوات الحكومية لن تحميها، لذا بدأت تُسلّح نفسها استعداداً لخوض المعركة. جمع عناصرها الأموال من اللاجئين والمهاجرين المنتمين إلى جماعتهم في أميركا الشمالية وأوروبا واشتروا بنادق وقذائف صاروخية، بعضها من البدو العرب الذين يحاربونهم راهناً.
توقعات كبرى
ما الذي يفسر تجدد أعمال العنف في دارفور اليوم؟ لم يكن انسحاب قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة مفيداً طبعاً، مع أن تلك القوات لم تكن تتدخل إلا في حالات نادرة، لكن العملية الانتقالية السياسية في الخرطوم كانت الأكثر تأثيراً على الوضع، فقد زادت جرأة العرب وغير العرب من سكان دارفور لكنها فشلت حتى الآن في تحقيق توقعات أي طرف من الأطراف.شارك عدد كبير من سكان دارفور في الاحتجاجات التي أدت إلى إسقاط عمر البشير، ويقال إن تلك الانتفاضة بدأت عموماً في ولاية النيل الأزرق ثم امتدت إلى الخرطوم، لكن يزعم الناشطون في مدينة الجنينة السودانية أنهم نظموا أول حركة احتجاجية في ديسمبر 2018، ومن بين المتظاهرين، قُتِل الشاب الزبير السكيران البالغ من العمر 17 عاماً بعد تعرضه لإطلاق النار على يد القوات الحكومية، وهو يُعتبر أول "شهيد" للثورة على الأرجح، وصودف أنه كان عربياً.لكن تبقى مشاعر الوحدة التي أوحت بها الانتفاضة في البداية عابرة، فقد أصيب المحتجون بعد فترة بخيبة أمل إزاء وتيرة التغيّر الحاصل، واشتكى سكان دارفور غير العرب تحديداً من انحصار الثورة في الخرطوم وبقاء إقليم دارفور عالقاً في عهد البشير، وعملياً، تحقق تغيير بارز واحد على الأقل: تمكن سكان دارفور غير العرب من التعبير عن استيائهم عبر متابعة تنظيم الاحتجاجات والاعتصامات وحملات العصيان المدني التي كانت القوات السودانية تقمعها سريعاً في الماضي، وفي ظل توسع حرية التعبير، بدأ سكان دارفور غير العرب يتحركون للمطالبة بالديمقراطية وحق العودة إلى وطن أجدادهم وإجلاء المستوطنين العرب.شعرت الجماعات العربية في دارفور بأن هذه المطالب تُهددها مباشرةً، وكانت تحمل أصلاً توقعات كبرى خاصة بها، وكان أحد القادة العسكريين الذين أسقطوا عمر البشير، واسمه محمد حمدان دقلو، زعيماً صغيراً وغير معروف في ميليشيات الجنجويد حين بدأت الحرب في دارفور، وبعد مرور عشر سنوات، اختاره البشير لقيادة قوات الدعم السريع الناشئة حديثاً وسرعان ما أصبح حارس الدكتاتور الإمبراطوري، فقد افترض البشير على ما يبدو أن تاجر جِمال في الأربعينيات من عمره سيكون أكثر ولاءً له من جنرالات الجيش القدامى، لكنه كان مخطئاً.اكتسب دقلو ثاني أقوى مكانة في الحكومة الانتقالية السودانية بفضل دوره في الاستيلاء العسكري في عام 2019، ونتيجةً لذلك، استرجع العرب في دارفور ثقتهم بنفسهم وظنوا أن دقلو سيساعدهم لترسيخ سيطرتهم على الأراضي والموارد التي حصلوا عليها بفضل الجنجويد، لكن بذل دقلو قصارى جهده لتجاوز ماضيه في زمن الحرب وطرح نفسه كصانع سلام وألقى خطابات حول أهمية المصالحة بين القبائل، حتى أنه قاد مفاوضات مع عدد من الجماعات السودانية المتمردة وغير العربية، مما أدى إلى توقيع اتفاق سلام في أغسطس 2020.شملت بنود اتفاق السلام التزاماً من الحكومة بالإشراف على إخلاء الأراضي المحتلة خلال الحرب، مما يسمح بعودة آمنة للنازحين، وهذه الخطوة أثارت قلق الجماعات العربية في دارفور، فشاركت هذه الأخيرة في اعتداءات ضد المخيمات والقرى غير العربية، ثم نظمت "اعتصاماً للقبائل العربية" في مدينة الجنينة للمطالبة بتفكيك مخيمات النازخين في محيط البلدة.لا معنى للسلام
في خضم هذه الاضطرابات كلها، أثبتت الحكومة الانتقالية الجديدة في الخرطوم قلة كفاءتها، فهي لم تنفذ بعد معظم بنود اتفاق السلام المبرم في عام 2020 ولم توفر الحماية لسكان دارفور غير العرب ضد أعمال العنف المتصاعدة، حتى أنها لم تُسلّم بعد عمر البشير واثنين من كبار المسؤولين السابقين إلى المحكمة الجنائية الدولية، وهو بند ينصّ عليه اتفاق السلام. يتعلق جزء من المشكلة ببقاء بعض مرتكبي جرائم الماضي في السلطة. بالإضافة إلى محمد حمدان دقلو، حارب أبرز مسؤول عسكري في المرحلة الانتقالية، وهو الجنرال عبدالفتاح البرهان، في دارفور، ويقال إنه تورط في اعتداءات ضد الجماعات غير العربية.أدت الانقسامات المستمرة داخل الحكومة الانتقالية، بين فروعها المدنية والعسكرية وبين القوات المسلحة النظامية وقوات الدعم السريع، إلى فشل محاولات كبح أعمال العنف، وخلال كل موجة من الاعتداءات في غرب دارفور مثلاً، كانت تمرّ أيام عدة قبل أن تتمكن الحكومة من نشر قواتها لوقف أعمال القتل، وأعلن الضباط في الإقليم مراراً أنهم لم يتلقوا الأوامر من الخرطوم للتدخل، وفي ظل غياب أي توجيهات واضحة من الحكومة الانتقالية، يقال إن القوات الحكومية دعمت جهات مختلفة.عند التجول في دارفور، مررتُ بعدد من المستوطنات العربية التي تحوّلت بكل وضوح إلى مواقع عسكرية، ومررتُ أيضاً ببلدات تدمرت بالكامل على مر عقدَين تقريباً منذ بدء الحرب في عام 2003، منها قرية أشباح استهدفها هجوم حكومي وحشي في عام 2004 وأسفر عن مقتل 300 شخص، ثم التقيتُ بعدد من الناجين في مخيم للنازحين في "زالنجي"، عاصمة ولاية وسط دارفور. أخبروني بأن قلة من الناس تجرأت على مغادرة المخيّم، لكنّ الأشخاص الذين قرروا المجازفة والعمل في الزراعة اضطروا لمشاركة محاصيلهم مع العرب الذين هجّروهم، ويقول الناجون إن التكلم عن جرائم الماضي أو المطالبة بالعدالة يعني المجازفة بالتعرض للقتل، إذ تشمل قوات الدعم السريع التي تقوم بدوريات في سوق "زالنجي" عدداً من المعتدين عليهم. في النهاية، يضيف أحد الناجين: "لا معنى للسلام بما أن المجرمين ما زالوا هنا ويحملون الأسلحة بأيديهم، يجب أن تُنزَع أسلحتهم ويُحاكَموا ونسترجع نحن أرضنا".