حقيقة الصين المؤلمة
يخوض شي جين بينغ سباقاً مع الزمن، فقد بدأت مظاهر الانتعاش الاقتصادي الذي حققته الصين سابقاً ونجاحها في احتواء فيروس كورونا تتلاشى، وفي الوقت نفسه، تحتفل وسائل الإعلام الدولية اليوم بفاعلية اللقاحات ومعدلات التلقيح وقد بدأت اقتصادات أخرى تسجّل معدلات نمو قوية، لكن الرئيس الصيني من جهته يتابع إلقاء خطابات حول "استثنائية" الصين وتفوّقها على غيرها.لكن وراء خطابات النصر هذه تكمن حقيقة مؤلمة أخرى: بدأ المجتمع الصيني يتصدّع بطرق معقدة وشائكة، وتستفحل هناك مظاهر التمييز على أساس الجنس والانتماء العرقي، ويترسّخ هذا الوضع بفعل المواقف القومية المتزايدة والمليئة بالكره على شبكة الإنترنت، وفي حين يسعى شي جين بينغ إلى تعزيز الابتكارات الأصلية والاستهلاك المحلي، سيتوقف نجاحه على الدعم الفكري والاقتصادي الذي يقدمه الناخبون الذين يزدادون حرماناً بسبب سياساته، وإذا لم يسارع الرئيس الصيني إلى معالجة هذه التصدعات، قد يبقى طموحه بإعادة إحياء الوطن الصيني مجرّد حلم.يتكلم المسؤولون الصينيون دوماً حول الانقسامات العرقية التي تشوب الولايات المتحدة، لكنهم لا يتكلمون بالصراحة نفسها عن الانقسامات المتزايدة داخل بلدهم، لا سيما على المستويات العرقية والجغرافية، فقد حاول هؤلاء القادة تجريد عدد كبير من المناطق المستقلة (شينجيانغ، التِبَت، وبدرجة أقل منغوليا الداخلية) من ممارساتها الدينية والثقافية وأخضعوها لمستويات استثنائية من المراقبة والتدابير الأمنية الصارمة في محاولة منهم للحفاظ على الاستقرار السياسي، وفي 2019، أنفقت الصين 216 مليار دولار على أمنها العام المحلي، بما في ذلك أمن الدولة، والشرطة، والمراقبة المحلية، والميليشيا المدنية المسلحة، أي ما يساوي أكثر من الإنفاق الحكومي قبل عشر سنوات بثلاث مرات وأكثر من المبالغ المخصصة لجيش التحرير الشعبي بمعدل 26 مليون دولار.
على صعيد آخر، لم يكن تعامل شي جين بينغ مع النساء إيجابياً بأي شكل، حيث تحتل امرأة واحدة منصباً مرموقاً في أعلى قيادة الحزب الشيوعي الصيني الذي يشمل 25 عضواً من المكتب السياسي التابع للحزب ولجنته الدائمة، كذلك، تشكّل النساء 4.9% فقط من أقوى 204 أعضاء في اللجنة المركزية، وتقتصر نسبة النساء بين أعضاء الحزب الشيوعي الصيني (يصل مجموعهم إلى 90 مليون عضو) على 27.9%.يقيّم تقرير الفجوة العالمية بين الجنسين الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي التفاوت بين الرجال والنساء بناءً على مجموعة من المعايير الاقتصادية والسياسية والتعليمية والصحية، وقد صنّف الصين في المرتبة 107 من أصل 144 دولة في 2021، بعدما كان البلد في المرتبة 69 في 2013 الذي شهد وصول شي جين بينغ إلى السلطة، كذلك تراجعت نسبة مشاركة النساء في اليد العاملة بوتيرة متسارعة، وفي هذا السياق، يكشف تقرير صادر عن "معهد بيترسون للاقتصاد الدولي" أن الفجوة بين الجنسين على مستوى اليد العاملة في الصين زادت من 9.4% في 1990 إلى 14.1% في 2020، وتكسب المرأة الصينية دخلاً أقل من الرجل بنسبة 20% تقريباً. كذلك، يعترف أكثر من 80% من الطالبات الجامعيات بمواجهة مظاهر التمييز على أساس الجنس عند البحث عن الوظائف، وغالباً ما تطلب الوظائف الرجال حصراً أو تفرض على المرأة أن تكون متزوجة ولديها أولاد كي لا تضطر للتوقف عن العمل بسبب الحمل.أصبح الخطاب الوطني المرتبط بهذه المسائل أكثر انقساماً من أي وقت مضى، فغالباً ما تُقابل التعليقات النسوية بهجوم قومي شرس، وقد اتّهم مذيع الأخبار باي جي الناشطات النسويات بالتسلل إلى البلد وافتعال صراع بين الشعب والحكومة وتنفيذ أجندتهنّ المعادية للصين، وفي شهر أبريل أغلقت شبكة التواصل الاجتماعي "دوبان" حسابات خاصة بعشر مجموعات نسوية على اعتبار أنها تطرح أفكاراً متطرفة، علماً أن بعض أعضائها يدافع عن حق المرأة بالامتناع عن الزواج والإنجاب أو إقامة علاقات مع الرجال. كذلك، أغلقت أكبر منصة صينية للرسائل النصية، "ويبو"، حسابات ناشطات نسويات لأنهن ينشرن "معلومات مسيئة وغير قانونية". أخيراً، تكلم وانغ غوفي، الرئيس التنفيذي لمنصة "ويبو"، عن هذا الموضوع شخصياً فزعم أن النسويات يحرّضن على الكره والتمييز بين الجنسين.مع ذلك، لم تستسلم الناشطات النسويات الصينيات، بل قرر عدد منهنّ مقاضاة منصة "ويبو" واسترجع بعضهنّ حساباته وحقّق هاشتاغ "تضامن النساء" حوالى 50 مليون مشاهدة عند تداوله على موقع "ويبو"، وفي وقتٍ سابق من هذه السنة، ابتكرت مجموعة من الفنانات موقعاً حيث امتلأت إحدى التلال بأكثر من ألف رسالة مسيئة على الإنترنت كانت قد تلقّتها الناشطات النسويات، وحمل المشروع اسم "متحف عنف الإنترنت"، لكن الكثيرين يعتبرون امتناع الحكومة عن التصدي للسلوكيات الخطيرة عبر شبكة الإنترنت دعما ضمنيا لهذا الخطاب. في هذا السياق، تقول الصحافية الأميركية ليتا هونغ فينشر إن المرأة التي تعلن عدم رغبتها في الزواج أو الإنجاب تُعتبر معادية لمصالح الدولة الصينية التي تدعم حملة الإنجاب بكل قوة في ظل تراجع معدلات الولادات بنسبة كبيرة.نسختان من الصين تعامل قادة الصين مع النمو الاقتصادي المستمر وكأنه نتيجة حتمية، فقد حققت الصين طبعاً مستويات مبهرة من النمو الاقتصادي في آخر أربعة عقود، حتى أنه فاق عتبة العشرة في المئة خلال 16 سنة من هذه الفترة، وفي شهر فبراير الماضي، أعلن شي جين بينغ انتصار بلده بعد التخلص من الفقر المدقع (أي الفئة التي تكسب 28$ شهرياً كحد أقصى). لكن قبل فترة غير طويلة، صَدَم رئيس الوزراء لي كه تشيانغ المواطنين الصينيين حين كشف أن أكثر من 600 مليون شخص (أي 40% من مجموع السكان) يكسبون 140$ شهرياً كحد أقصى، وبغض النظر عن مزاعم شي جين بينغ، عجزت بكين عن معالجة مظاهر اللامساواة المستمرة في المشهد الاجتماعي والاقتصادي الداخلي. باختصار، يتألف البلد فعلياً من نسختين صينيتَين.تكشف تحليلات صندوق النقد الدولي أن اللامساواة تنجم عن التفاوت في مستوى التعليم واستمرار ممارسات الحد من حرية التنقل، فضلاً عن التغيرات التكنولوجية التي زادت أجور العاملين الأكثر مهارة. وقد طرح الخبير الاقتصادي في جامعة "ستانفورد"، سكوت روزيل، تفاصيل حول فشل بكين في توفير الفرص التعليمية المناسبة لعدد كبير من سكان الأرياف الصينية كي يتمكن هؤلاء من المشاركة في الثورة التكنولوجية الناشئة والمتسارعة داخل الصين، وتبدو تداعيات هذا الوضع على المدى الطويل هائلة: قد يؤدي ارتفاع مستوى اللامساواة في المداخيل إلى الحد من النمو الاقتصادي ومظاهر الاستدامة، وإضعاف الاستثمارات في قطاعَي الصحة والتعليم، وإبطاء الإصلاح الاقتصادي.قد تبدو تكاليف هذا الحرمان السياسي والاقتصادي في قطاعات مهمة من المجتمع الصيني سلسة اليوم، لكنها ستصبح أكثر عمقاً على المدى الطويل. من خلال رفض معالجة التحديات التي تواجهها النساء وحرمانهنّ من القدرة على اختيار مسارهنّ، تجازف بكين ببلوغ مستقبل تشوبه مشاكل مثل تراجع الناتج المحلي الإجمالي، وانخفاض معدل الولادات، وتوسّع الصراعات الاجتماعية، كذلك يحدّ استمرار اللامساواة في المداخيل من قدرة المسؤولين الصينيين على ترسيخ الاستهلاك والنمو المحلي بطريقة سليمة، وتجازف المطالبة بولاء أيديولوجي دائم باستمرار هجرة الأدمغة لفترة طويلة، ويكشف أحد الاستطلاعات أن 57.5% من سكان هونغ كونغ بين عمر الخامسة عشرة والثلاثين يريدون أن يهاجروا إذا سنحت لهم الفرصة، ويذكر استطلاع مختلف حول الراشدين في هونغ كونغ أن 42.3% من المشاركين يفكرون بالهجرة أيضاً. في عام 2019، غادر أكثر من 50 ألف شخص هونغ كونغ لأسباب سياسية، ومن المتوقع أن تتدهور قدرة بكين على جذب المهارات العلمية والفكرية اللامعة لأن الأجانب يراقبون حتماً الاعتداءات التي يتعرض لها كبار العلماء ورجال الأعمال في الصين.تترافق الانقسامات المحلية التي تشهدها بكين أيضاً مع تداعيات على علاقاتها مع الدول الأخرى، وسيؤدي تعامل البلد القمعي مع النساء إلى إضعاف قوة الصين الدبلوماسية وكبح أي مفهوم مرتبط بالنموذج الصيني المثالي الذي يستطيع الآخرون الاقتداء به، وفي غضون ذلك، دفعت انتهاكات حقوق الإنسان في "شينغيانغ" بالشركات المتعددة الجنسيات إلى البحث عن مصادر بديلة لسلاسل التوريد، وشجّعت حملة القمع السياسي في هونغ كونغ الشركات الأجنبية على نقل عملياتها إلى مواقع آسيوية أخرى مثل سنغافورة. كذلك، فرضت كندا والاتحاد الأوروبي وبريطانيا والولايات المتحدة العقوبات على أفراد يُعتبرون مسؤولين مباشرةً عن تلك السياسات وعلى الشركات التي تتكل على السخرة في "شينغيانغ"، وأعلن الاتحاد الأوروبي بدوره أنه لن يفكر بتمرير "الاتفاقية الشاملة للاستثمار" مع بكين ما لم يرفع المسؤولون الصينيون العقوبات المضادة. في الوقت نفسه، تلاشت أي آمال كان يحملها شي جين بينغ حول تكرار نجاح الألعاب الأولمبية التي نظّمتها الصين في عام 2008 من خلال استضافة الألعاب الأولمبية الشتوية في عام 2022 نتيجة توسّع الإجماع بين الدول حول مقاطعة هذا الحدث، ولو جزئياً.إذا لم يصحح الرئيس الصيني هذا المسار فقد يتحول حلمه الصيني الكبير إلى كابوس حقيقي.