ذكرى
شهدنا في الآونة الأخيرة رحيل العديد من الشخصيات المؤثرة والمحبوبة من فنانين ومفكرين بسبب الفيروس اللعين، حيث كان رحيلهم ذا وقع مؤلم ومرير بعد بذلهم عقوداً من العطاء والإلهام مشكلين بذلك ملامح الثقافة في العالم العربي، فخلدوا ذكراهم في القلوب بعد أن ودعنا جسدهم المادي وبقي أثرهم محفوراً في ذاكرة الشعوب.هذه الوتيرة المرعبة والمتسارعة لحالات الوفاة تجعلنا نتوقف قليلاً كي نطرح عدة أسئلة وجودية مهمة، فنحن لا نتحدث عن الموت؛ ذلك الحدث الحتمي الذي يداهمنا بغتة وتتشارك فيه جميع الكائنات الحية، مما يعني أننا لا نتهيأ له بشكل ناضج، فنحن ننظر إليه كأمر بعيد الحدوث، ثم نُصدم حين يفاجئنا ونتعاطى معه بكل سطحية لا تتعدى البكاء لبضعة أيام فحسب. أما السؤال المُلح فهو: ماذا سنخلف بعدنا من ذكرى بعد رحيلنا؟ كم أشفق على أولئك الذين نشروا كل صغيرة وكبيرة على "السوشال ميديا" واختاروا أن يكونوا "مهرجين" من أجل الشهرة فحسب، أو من تاجرن بالجسد وصنعن صورة مزيفة في سبيل المال وتحت ذريعة الحرية الشخصية دون إدراك حجم تأثيرهم الكارثي على ثقافة مجتمع بأكمله– لا سيما الجيل الجديد من الصغار الذين اتخذوا من أولئك قدوة ومثلا أعلى لهم- مع الأسف.
هنا أوجه السؤال لهؤلاء "المشاهير": هل ستتقبلون أن يسلك أبناؤكم المسلك ذاته؟ وهل سينفع الندم بعد نشر محتوى ما، ثم إلغائه بعد أن شاهده آلاف المتابعين؟ أما السؤال الأهم فهو: ما الإرث الثقافي الذي نقدمه لمن سيأتون بعدنا؟ فلا يوجد شيء سوى الإسفاف في هذه المنصات التي باتت تتحكم في حياتنا ونقضي من خلالها جل وقتنا، لاسيما تحت ظل الجائحة. لابد أن نقف قليلاً ونطرح على أنفسنا أسئلة وجودية بالغة الصراحة: ما أنا فاعلٌ في حياتي؟ وكيف تشكل نشاطاتي اليومية مسار هذه الحياة؟ إن رحلت غداً، فهل سأكون فخوراً بإنجازاتي؟ وهل سيتذكرني الآخرون بالخير ويفتقدونني؟ أم هل سيكون رحيلي راحة لبعضهم؟ ما تأثيري على من هم حولي؟ هل أنشر السعادة والفائدة أم هل وجودي مجرد إسقاطات تسبب الألم والمرارة للآخرين فحسب؟يجب أن نطمح ونحاول– مهما كانت محاولاتنا متواضعة- أن نكون في مصاف الأخيار والعظماء الذين استطاعوا تغيير العالم إلى الأفضل ومازالت أصداء كلماتهم تمس العقول وفنونهم تمس شغاف القلوب حتى بعد رحيلهم بقرون طويلة، لذا كفانا إسفافاً وكفانا تبذيراً لأيامنا، فالغد ليس مضموناً.