من صيد الخاطر: «حيص بيص»
"حيص بيص" اسم لشخص، ولكن له معنى ومقصد معروف، فهو يطلق على الناس الواقعين في حيرة من أمرهم، وهو توصيف عربي صحيح لمن يجد نفسه وسط معمعة فيصاب بالذهول والضياع، بسبب الفوضى والهرج والمرج المحيطين به، فيقال فيهم: إن الناس واقعون في "حيص وبيص"، ووراء هذا الوصف حكاية.فأول من تلفظ به هو أبو الفوارس، سعد بن محمد التميمي، الذي عُرف لاحقا بـ"حيص بيص"، كان شاعراً مشهوراً، وفقيها شافعي المذهب، أفتى في مسائل الخلاف، ولكنه أبدع وأجاد في الأدب، ونظم الشعر وأجاد فيه مع جزالة لفظه، وله رسائل فصيحة بليغة، وكان من أخبر الناس بأشعار العرب واختلاف لغاتهم، وكان لا يخاطب أحداً إلا بكلام فصيح يصعب على بعض الناس فهمه لصعوبة مفرداته، ولا يخرج إلا بلباسه العربي، متمنطقا بسيفه.سمي أبو الفوارس "حيص بيص" لأنه رأى في أحد الأيام الناس وهم في انزعاج، وقد اختلط الأمر عليهم من حدث أصابهم فقال متسائلا: لمَ هؤلاء الناس في "حيص بيص"؟ فأصبح ما قاله لقباً له، ومعنى هاتين الكلمتين الشدة والاختلاط، فتقول العرب في ذلك: لقد وقع الناس في "حيص بيص".
أما من طرائف "حيص بيص"، وقد عرف عنه تقعُّره بالمفردات، أن نقه يوما من مرض، فنصحه طبيب بأكل الدُّرَّاج، فأرسل غلامه للسوق ليأتيه ببعض منه، وفي عودته الى سيده، اجتاز الغلام باب أمير وغلمانه يلعبون، فخطف أحدهم منه الدُّرَّاج.أتى الغلام "حيص بيص" وأخبره بما حصل من غلمان الأمير، فقال له: ائتني بدواة وقرطاس، فأتاه بهما، فكتب إلى ذلك الأمير: "لو كان مبتزّ دُرَّاجة فتخاء كاسر، وقف بها السّغب بين التدويم والتمطر، فهي تعقّي وتسفّ، وكان بحيث تنقب أخفاف الإبل لوجب الإغذاذ إلى نصرته، فكيف وهو ببحبوحة كرمك؟! والسلام"، ثم قال لغلامه: امض بها وأحسن السفارة بإيصالها للأمير. مضى الغلام بالرسالة ودفعها للحاجب، فدعا الأمير بكاتبه وناوله الرقعة فقرأها ثم فكر ليعبِّر له عن المعنى، فقال له الأمير: ما هو؟ فقال: مضمون الكلام أن غلاماً من غلمان الأمير أخذ دراجاً من غلامه، فقال: اشتر له قفصاً مملوءاً دراجاً واحمله إليه، ففعل.المفردات التي أتى بها "حيص بيص" في رسالته الى الأمير لا يمكن فك رموزها إلا بمتبحر متقعر في اللغة مثله، فمن استطاع أن يكشف عن طلاسمها فليفدنا بمعانيها، أفاده الله في الدنيا ورحمه في الآخرة. نقول: ويل لأمة أوقعها أهلها في "حيص بيص"، فوسدت فيها الأمور الى غير أصحابها، فسادها الهرج، وكثر فيها الفساد، ولم يعد ناسها يفهمون ما يحاك لهم، ولا يعلمون ماذا هم فاعلون.