شرفته... رائحة مدينته وبقايا صوره *
من وراء شباك ذاك المقهى جلستا متأملتين شرفة غرفته بالفندق المعتق بزاوية ذاك الشارع الحيوي من مدينته التي تركها صغيراً وبقيت تسكنه في كل مراحل حياته، فيعود لها ومع الوقت أصبحت تلك الغرفة في الطابق الثاني من الفندق وعند الزاوية المطلة على شارعين حيويين، هو الذي بقي فضوله وحسه الصحافي متقدين رغم التقدم في العمر وعوارض المرض. راحت صديقته وتلميذته التي ظلت طالبة مجتهدة في مدرسته الصحافية بل مدرسته في الحياة، تستعرض زياراته بتفاصيلها حتى الصغيرة منها والمضحكة وهو العاشق للحب والضحك، الكاره لطقوس النكد التي كثيراً ما تعوّد عليها بعضنا في مجتمعات تجد في الموت مناسبة للبكاء واللطم! أفسد إصرار النادل على أخذ الطلبات استرسالها في السرد اللذيذ وعكّر بعض صفو تلك الجلسة، فكان لا بد من الاستجابة له "قهوة مرة" رددت هي سريعا وكأنها تقول لا تعكر صفو هذه الجلسة في حضور الحبيب والأستاذ المعلم والصديق الغائب. بعيون ملأتها الدموع بمزيج غريب من الفرح الصبياني راحتا تتطلعان صوب الشرفة وكأنهما تريانه فاتحاً بابها الزجاجي من بقايا ذاك الطراز المعماري القديم، وخارجاً إلى الشرفة حاملاً بيده السيجار الذي كان يتلذذ بتدخينه وفنجان قهوته الخاص جداً.
كان الوقت ما قبل المساء بقليل وشمس حزيران (يونيو) لا تزال ترسل بعض الحرارة رغم نسمة هواء تخفف من حر ما قبل نزول الشمس كاملة وظهور قمر ليل تلك المدينة الخاص جداً عندما ترسل جدران بيوت المدينة رائحة ياسمينها على المارة مع أول قطرة ندى.. أليست هي مدينة الياسمين؟ ربما أخرجت سيجارتها من شنطتها الصغيرة وأشعلتها ثم أخذت نفساً عميقاً وكأنها تضع فواصل للحديث، وهي تسرد لحظات من زياراته المتقطعة التي كانت لا تخلو من كثير من الطرافة واللقاءات العاصفة مع أصدقاء قدامى بقوا هنا وآخرون ما لبث أن تقاطعت دروبه معهم.. هو الجاذب للبشر من مختلف الأعمار والاهتمامات والخلفيات والأجناس والتوجهات.. هو الذي يتوسط تلك الجمعات، وكأنه سلطان الجلسة يدير دفة الحديث ويحولها إلى ما يريد أن ينبش من مواضيع أو ما يرغب في أن يتسلى به أو حتى ليعرف كيف غير الزمن من شلته ومعارفه وناسه. وصلت القهوة ساخنة و"بوش" ابتسمتا دون اتفاق وبصوت واحد "هكذا كان يحبها.. هكذا كان يقيّم مهارة من قام بصنعها له"، هو من يقدس ثقافة الطعام وخاصة في بلده، حيث تاريخ عريق من فنون الطبخ. لم يكن بالإمكان أن تنتهي جلسة معه دون أن يتذكر أكلات رسخت في ذاكرته منذ الطفولة أو حتى فاكهة أو نوعا من الخضراوات كل في موسمه، حيث اعتادت أمه أن تلون سفرتهم بها. اختلط الضحك بالدموع في طقس يلخص تلك العلاقة الخاصة بين الثلاثة: تلميذتين بأستاذهما.. صديقتين من جيل مختلف بصحافي وكاتب وإعلامي ورجل من صنف آخر.. رجل لا يشبهه أحد، يتقن الحديث عن العشق ممزوجا بتحليل مطول للأوضاع السياسية في المنطقة والعالم.. يرى تفاصيل النساء المترئسات حكومات في أوروبا مثل تيريزا ماي فيرسل تعليقاته على ملابسها وحذائها وتسريحة شعرها.. ربما تركيزه على بريطانيا أكثر من الدول الأخرى، فهو الدارس في كامبردج والذي دفعته الحرب الأهلية في لبنان للنزوح المؤقت الى لندن، حيث لم يتخل عن كتاباته وكتبه ودار نشره، هو الذي أطلق شعار "لا تتركوا الكتاب وحيداً". بدا الحديث وكأنه محاولة أولية لمشروع كتاب يستذكره بكل زوايا شخصيته المتنوعة، بل هي شخصيات متداخلة وتبدو متناقضة أحياناً.. عادتا للنظر إلى الشرفة بعد الشرود في السرد المتقطع لمراحل ومحطات من تلك الحياة الثرية المليئة بالتفاصيل المطرزة بكثير من الفرح والضحك. بعد أن انتهتا من احتساء القهوة ودّعتا غرفته بشرفتها الفسيحة وكأنهما تودعانه مرة أخرى.. مضتا في المشي بطريق الذكريات كصغيرتين تكتشفان مدينة عشقها حبيبهما.. الدكاكين المكتظة ومحلات الشاورما وصانع سندويتشات السجق الشهية ورائحة الفلافل.. مزيج هو من روائح وصور لمدينته كما كان يتذكرها حتى راح يحتفظ بالتفاصيل في أركان المساحات المليئة بالصور.* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.